محمد العلي وفكرة الريادة وأسبابها
لا يُذكر اسم محمد العلي في أي مناسبة ثقافية أو أدبية، على مستوى المملكة أو الخليج، إلّا ويقرن باسمه مفهوم الريادة في الكتابة الشعرية والفكرية.
وقد جاءت هذه الريادة تحت مسميات عديدة: الحداثة والتجديد، المعاصرة والتحديث.
وقد جاهد الكثير من مثقفي المملكة من الجيل المعاصر لمحمد العلي أن يؤسسوا لخطاب الريادة عبر أنشطتهم الكتابية أو المنبرية أو حتى كتابتهم الصحفية، باعتبار موقعهم المؤثر في قلب هذا الخطاب، وباعتبار المساهمة الفاعلة التي أنتجوها بحراكهم الفكري والأدبي، والتي أثرت على الأجيال اللاحقة، وأكثر النماذج سطوعا ووضوحا في هذا السياق كتاب «حكاية الحداثة» للغذامي، على الرغم من وجود غيره ممن قاربوا فكرة الريادة. لكن من منطلقات أكثر موضوعية وشمولية.
لكن حديثي هنا لا يتضمن الإشارة إلى تفاصيل تلك المقاربات، إلا ما يشير منه بفكرة الريادة عند محمد العلي، وإن كنا نعلم جميعا أن الشاعر الراحل علي الدميني هو من أنصف محمد العلي في ريادته للحداثة الشعرية والفكرية، رغم نفي العلي صفة الريادة عنه في الكثير من المواقف، وإحالتها إلى الشاعر الكبير محمد حسن عواد.
غير أني سأتحدث عن أسباب أخرى، تضاف إلى غالبية الأسباب المعروفة عند الذين أعطوا للعلي حق الريادة، بحيث توثق العلاقة بينها «أي الأسباب» وبين الريادة في المجالين الفكري والشعري.
إن فكرة الاختلاف في البيئة والمسار الحياتي حد التناقض هي التي مهدت لصناعة شخصية العلي كأبرز رواد الحداثة في المملكة والخليج.
وما أعنيه بفكرة الاختلاف تلك، هو عبور العلي من بيئة إلى بيئة أخرى في الضفة المقابلة تماما، فمن قرية العمران إلى مدينة النجف، في سن مبكرة من عمر الشباب، هو عبور بين عالمين على طرفي نقيض، هدوء القرية وبساطتها وحياة الجماعة الثابتة وتمثلاتها في الوعي والحياة الاجتماعية، لا يمكن أن تقارن بأي ظرف من الظروف بحياة النجف الصاخبة بالحركة الثقافية والأدبية وبوجود الشخصيات اللامعة في الفكر والأدب المؤثرة على حياة العراقيين أجمع.
إنه ليس عبورا فقط، بل أشبه ما يكون بالقطيعة التي لا تنفك تعيد صياغة الشخصية، وصياغة وجدانه الداخلي، وهذا ما حدث للعلي تماما، وقد ألمح في إحدى حواراته المتلفزة بما معناه «أن مدينة النجف خلقت مني إنسانا متمردا، وأنها مدينة قد تدفعك إلى الخمول والاستسلام أو تدفعك إلى التمرد».
فلا يوجد توسط في مثل هذه الحياة الثقافية في العراق، إما أن تمزق جلبابك كاملا، أو تظل لابسه طوال الدهر.
لذا حالة صاحب «لا ماء في الماء» تمثل وضعا نادرا مقارنة ممن يمثلون الريادة في المملكة، فمن محمد حسن عواد إلى محمد سرور الصبان ومحمد سعيد العامودي وحسن القرشي وطاهر زمخشري وآخرين كانت أغلب مرجعياتهم الثقافية والأدبية عربية تراثية مصرية بالدرجة الأولى، بحكم القرب والتأثير المباشر على أرض الحجاز التي كان أغلب هؤلاء ولدوا فيها ونشأوا إلى جد ما.
لكن هذه المقارنة ليست من باب المفاضلة. لكنها لتبيان ما يمكن تفسيره في شخصية العلي ونتاجه الفكري والإبداعي.
ووفق هذا التفسير، يمكن إيجاد الرابط الوثيق بين فكر العلي وأدبه.
قصيدة فكونه جاء إلى النجف عام 1946م ورحل عنها إلى الدمام 1964م متنقلا فيها بسنينه تلك من الحياة الدينية الحوزوية الصارمة إلى الحياة المدنية المنفتحة على كل جديد. وكون أيضا هذه الحياة الأخيرة امتازت بخاصية سوف تلازم شخصية محمد العلي الثقافية، ألا وهي التأثير المتبادل بين الفكر والأدب الذي كان يسير كل واحد منهما جنبا إلى جنب: الجواهري على سبيل المثال إزاء علي الوردي، حسين مروة إزاء بدر شاكر السياب وآخرين كثر امتلأت بهم سماء العراق وأرضه.
ناهيك أن السياسة أوجدت رافعة كبيرة يلتقي على أرضها هؤلاء وأولئك. لذلك لا يمكن القفز على مثل هذا الوضع عندما نقرأ محمد العلي من العمق.
فالإحالة الكبرى على مجموع مقالاته «كلمات مائية» أو «وقوفا بها» وبالنظر أيضا إلى بنية القصيدة أي «الرؤية والأسلوب» عنده، فإننا نخرج بنتيجة مؤداها أن أبا عادل لا تسع تمرده قصيدة ولا فكرة مقال. فقد كانت اللغة كفكر ووجود من جانب، وكمجاز وصور من جانب آخر هي العلاقة الوثيقة التي تربط بين الاثنين. ربما نحتاج إلى مقال آخر لتسليط أكثر على تلك العلاقة.