ثنائية التساؤل والحس النقدي
خاصية التساؤل والحس النقدي هما وجهان لعملة واحدة، كل واحدة تستدعي الأخرى، وتحفزها من العمق. لكن هذا الحس المفضي إلى السؤال وإلى تداعياته، هو لماذا أصبح من منظور الفلسفة أخطر الأسئلة في التاريخ؟
السبب يكمن «في الممارسة النقدية على الأجوبة الجاهزة» «وعدم قبول الجاهز من السائد الفكري» وهذه ممارسة خطرة بلا شك تفضي بصاحبها إلى التهلكة.
والفلسفة هي من مهدت الطريق لمثل هذا التقليد الفكري، فالسؤال عن معنى الوجود الذي افتتحت به الفلسفة تاريخها كان فريدا من نوعه، لم يألفه اليونانيون، فإجاباتهم السائدة حول هذا السؤال كانت مستمدة من تراثهم الأسطوري المتعلق أساسا بالآلهة وتعددها.
وعدم الألفة يفضي إلى مواقف خطرة، وحادثة إعدام سقراط دليل على ذلك، وهي معروفة للجميع.
أناكساغوراس أستاذ سقراط سجن، وكاد يعدم بعد حادثة سقوط النيزك، فقد قام وتفحصه عن قرب، وقال قولته الشهيرة «الشمس والنجوم إذن ليست آلهة».
أرسطو أيضا خرج من أثينا عندما اشتد الصراع بينه وبين التقليديين، وعندما سئل عن خروجه قال «لا أريد لأثينا أن ترتكب جريمة ثانية في حق الفلسفة»..
هذا إذن ما يتعلق بتاريخ أصل السؤال في بداياته الإغريقية.
لكن ماذا عن تاريخيته في الخطاب الفلسفي الإسلامي؟
سأكتفي بمثال واحد:
اختلف المؤرخون في أسباب نكبة الفيلسوف ابن رشد، الأسباب متعددة كل حسب وجهة نظره، ولا حاجة لنا للدخول في متاهة تفاصيل هذه الأسباب. ما يفيدنا منها، ليس نفيه وإحراق كتبه، وغضب الخليفة الموحدي عليه.
لكن الخطر الواقع على صاحب السؤال الفلسفي يمتد إلى ما بعد حياته، فقد اتفق أغلب المؤرخين أن بداية انحسار التأثير الفلسفي الإسلامي هي مع بداية نكبة ابن رشد.
ويدلل المفكر الطيب بوعزة على صحة هذا الاقتران انطلاقا من غياب اسم ابن رشد، بعد فترة وجيزة من موته، من كتب سير الأعلام، فلا نجد - على سبيل المثال - ذكرا له في كتاب «سير أعلام النبلاء» لابن خلكان، ولا في كتاب القفطي «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، ولا في كتاب حاجي خليفة «كشف الظنون».
هذا المثال يوضح لنا أن التداعيات العكسية التي يجلبها صاحب التفكير الفلسفي بحسه النقدي وسؤاله الإبداعي، على نفسه وعلى تاريخه فيما بعد الممات، خطيرة ومحرفة للحقائق، وهذه إحدى الدلالات الكبرى التي تخبرنا أن صراع الأفكار في تاريخ حياة المجتمعات ليس بريئا، ولا يقف على الحياد مهما حاولت، ومهما اجتهدت في إخفاء مثل هذا الصراع.
لكن هذه الخاصية في التفكير الفلسفي، لا تقتصر على الفلاسفة وحدهم، هناك في التاريخ تجد الكثير من القصص لسير العظماء كالأنبياء والعلماء والمتصوفة والمثقفين الذين عانوا الكثير بسبب أسئلتهم الجذرية المزلزلة أمام سلطة الواقع.
هذه السلطة قد عبر عن خطابها القرآن الكريم أجمل تعبير حينما قال «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون» «المائدة 104».
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي:
أولا - أن فهم السؤال الفلسفي من جذوره التاريخية وفهم تحولاته، يحمي تفكيرنا من السقوط في السطحية والانفعالية التي لا تصمد أمام متطلبات الواقع الذي نعيشه وأمام سلطته.
ثانيا - أن ابتكار مثل هذه الأسئلة لا يحتاج إلى جهد معرفي كبير، ما نحتاجه فقط هو ممارسة التأمل المركب من البراءة والدهشة معا، ألم يقل أرسطو «إن الدهشة هي أصل التفلسف»، وهذه الممارسة تناسب الوضع الحالي لمجتمعنا كونه يملك خزانا من السلوك والتفكير القريب من روح الدهشة، وكونه أيضا مقطوع الصلة بالتفلسف تاريخيا.
وهذا ما يقودنا - ثالثا - إلى القول بالطبيعة المزدوجة لوظيفة السؤال الفلسفي، إما أن يظل سؤالا انفعاليا عابرا بيد صاحبه، هادما للسائد، محكوما بردود أفعال آنية ولحظية فقط، وإما أن يكون أساسا لبناء معمار محكم بالرؤية الإستراتيجية والوعي الإبستمولوجي والمعرفة الشاملة.