آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

شخصية عابرة للأجيال وعميقة في علاقتها باللغة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

بمناسبة فوزه بجائزة الأمير عبدالله الفيصل التي تطلقها أكاديمية الشعر بالطائف، تحت رعاية الأمير خالد الفيصل، أقيمت ضمن فعاليات معرض جدة للكتاب ندوة عن الشاعر والمفكر محمد العلي، وقد شارك في الندوة كلٌ من د. حسن مدن، د. أحمد الهلالي، والأستاذ حسين بافقيه، وكاتب هذه السطور، وبإدارة الدكتورة ريم الفواز.

وقد جاءت مداخلتي كالتالي: حين تُقام هذه الندوة، لأجل أن نستعيد من خلالها سيرة مثقف طليعي، وشاعر متجدد، لطالما ارتبط اسمه بلقب كان يتردد على ألسنة شعراء السبعينيات والثمانينيات، وهو «أبو الحداثة الشعرية بالمملكة».

وقبل أن أبدأ حديثي عنه، اسمحوا لي - أولًا - أن أستذكر في هذه اللحظات، المرحوم «بإذن الله» الشاعر «علي الدميني»، الذي كنا نسمعه ونراه، ما أنْ يبدأ بالكلام عن محمد العلي حتى تراه وكأنه يفتح لك كنزًا ثمينًا، وما عليك سوى أن تحافظ على مقتنياته من الضياع.

رحل الدميني إلى جوار ربه. لكن ما كتبه من كنوز عن العلي، لن يضيع على الإطلاق، وسيظل يمثل - كما في كتابه أمام مرآة محمد العلي - شهادة متفردة في حق شاعر ومفكر، نتعلم منها كيف تكون المحبة والصداقة والمعرفة بين الشعراء الكبار.

ثانيًا: أريد في هذه المداخلة السريعة أن أطرح سؤالين اثنين، أجد أن إجابتهما تكشفان عن جوانب متميزة في شخصية العلي الفكرية والشعرية. أولهما هو: ما الذي يدعونا إلى القول، وبإصرار كبير، إن شخصية محمد العلي شخصية عابرة للأجيال؟

لا سيّما حين تكون التقاليد في مشهدنا الثقافي والأدبي قائمة على الانغلاق، وليس الانفتاح، فكل جيل منغلق على نفسه، من جيل محمد حسن عواد إلى جيل الثبيتي في الثمانينيات، إلى ما بعده من جيل. وما أعنيه بالانغلاق، رفعًا للبس وسوء الفهم، هو غياب الدور الفاعل للمؤسسات التعليمية، وبالخصوص التعليم الجامعي، الذي كان ينبغي على هذا الدور أن يؤديه باعتباره حلقة الوصل التي تقوم بمهمة التعريف بالرموز الثقافية والأدبية من الجيل السابق، والتعريف بمنجزهم وأعمالهم أمام الجيل اللاحق عليه. هذا لم يحدث على الإطلاق، إلا في حدود ضيقة، والصحافة لم تكن لتعوض غياب هذا الدور، مهما حاولت واجتهدت ونشرت وعرّفت. من هنا تكمن أهمية «العلي» في ارتباطه بفكرة العبور. لكن بأي معنى يكون هذا العبور؟!

عندي حول هذا المعنى توضيحان: الأول: بوصفنا نحن جيل التسعينيات الذين اختار أغلبهم كتابة القصيدة الحديثة «قصيدة النثر»، كان «أبو عادل» بالنسبة لِما نكتب مرآة صقيلة تحدّق بعين فاحصة إلى كل ما يتسلل من قصائدنا إليها دون كلل أو ملل وبحماس كبير. ناهيك عن الجيل الذي جاء بعدنا، فقد كان في جُلّ توجهاته يرى في «العلي» جزءًا من مشروعه الإبداعي، لا سيّما مَنْ تميز منهم بكتابة ما يسمونها «القصيدة العمودية الجديدة»؛ إذ وجدوا في منجزه الشعري ما يوثق صلتهم بهذه القصيدة.

وبالمقابل كان هو يوسع لهم الطريق، ويعمق الرؤى، وينتصر لفكرة الشعر في أذهانهم، والمحفز لهم من خلال ما يكتبه عن قصائدهم في مقالاته شبه اليومية أو الأسبوعية.

أما ثاني التوضيحَين فهو يتصل بموقع القضايا الاجتماعية التي تأتي في صلب اهتماماته الصحفية؛ إذ دائمًا ما يجعل القارئَ مشدودًا إلى أفق ما يكتبه عن تلك القضايا؛ لأنه حين يتطرق إليها في مقالاته القصيرة، من قبيل: لعبة البيلوت أو كرة القدم أو الإنترنت أو الأمثال الشعبية.. إلخ، فإن لغته التعبيرية تحكمها قوة المخيِّلة من جانب، وتستدعي من جانب آخر الأسلوب الكتابي الذي يمتاز به التراث الإسلامي. وكلا الجانبين إذا لم يستطع الكاتب أن يوظفهما بما يخدم فكرته الأساس، وإلا سقط في فخ التداعيات والأسلوب التقريري. بيد أن مقالات العلي خلاف ذلك تمامًا، فتراه على سبيل المثال يبدأ مقالًا بكلمة «السكتة القلبية»، وما أن تصل إلى نهاية مقاله المكثف حتى يصلك إلى معنى آخر دون أن تشعر بمطبات هوائية في أسلوبه؛ لتتعرف على كلمة «السكتة الحضارية»؛ لذلك هكذا أسلوب كتابي يفتح الباب على مصراعيه؛ كي يلتقي على ضفافه كثير من القراء: القارئ المحب للتراث، القارئ المحب للمخيلة، القارئ المهتم بالشأن العام، وهؤلاء في الغالب هم من أجيال مختلفة المنشأ والتوجه.

لذا ليس غريبًا أن يكون محمد العلي شخصية عابرة للأجيال. أما سؤال مفهوم الكتابة لديه، فأفرده في مقال آخر.