الصديق الذي لن أبوح لكم باسمه
«كان ظني دائما أنني أستطيع الكتابة في أي وقت، وفي أي مكان، وذلك بحكم الخبرة والممارسة، وبحكم الصرامة التي وضعتها على نفسي حتى أصبح كاتبا محترفا. لكني كنت مخطئا».
قال جملته الأخيرة وكان يصر عليها بأسنانه، وكأنه يؤكد فشله تماما بينما نظراته مصوبة في البعيد، لا تبدي أي اهتمام بما يقوله.
رفعت يدي بحركة عفوية مستفسرا منه ماذا يعني بالخبرة والممارسة. لكنه ظل صامتا، لا ينظر سوى للبعيد.
هل يعقل بعد كل هذا العناء الذي كابده في مجيئه إلي بعد أن قطع بسيارته 200 كيلو حتى يقول لصديقه هذه الكلمات ثم يصمت!!
كان المكان مكتظا بالناس من حولنا، والزاوية التي نجلس فيها، هو من اختارها بالأساس حسب ما أخبرني عبر الموبايل: الجلوس على مقعد من هذه الزاوية يجعلك قريبا من الناس وبعيدا عنهم في نفس الوقت.
لم أفهم فلسفته، ولا جمله المنفلتة من عقال المعنى. أطلقت ضحكة خفيفة، وقلت له: لن أتأخر انتظرني أقل من نصف ساعة، وسأكون عندك، أخاف إذا ما تأخرت أجدك قد كتبت تقارير سرية في ذهنك عن هؤلاء الناس الذين يعبرون أمامك، أو الذين يجلسون بقربك، هذا يبدو عليه أنه محب للقراءة، وذاك كاره لها، وهذا الشخص يبدو عليه الغباء لأنه يتكلم بصوت عال. وفي نهاية الأمر ستضطر للهروب من المكان كما فعلتها المرة السابقة.
هو من طبعه لا يحب الجلوس في المقاهي المغلقة ولا المفتوحة، دائما ما يحب الجلوس في الأماكن التي ليس لها طابع الهوية المعروفة، فهو كما يقول لي مرارا وتكرارا: أحب أن أكون «لا مرئيا»، ولا يتحقق لي ذلك إلا إذا كنت في هذه الأماكن.
لذلك كلما كنت في موعد معه، وأذهب إلى لقائه، وعند وصولي، أكون في حرج كبير، لأني اضطر للالتفات كثيرا وتفرس الوجوه يمنة ويسرة، بعض الأحيان اقترب من هذه الطاولة أو تلك، وأظن أني رأيته، لكنني أتراجع في آخر لحظة.
والغريب في الأمر كما أخبرني لاحقا أنه يستمتع من مكانه حين يراني أبحث عنه، ويبرر لي ذلك حتى لا يطاله غضبي، أنه يريد أن يتأملني عن بعد، ليتعرف على الصفة التي يحبها عندي أكثر، لأن تأمل الذين نحبهم - كما يردد دائما - عن قرب يختلف عندما نتأملهم عن بعد، والبعد عنده هو أن يتركني أبحث عنه في دقائق معدودة، وفي مساحة ضيقة، مكتظة بالناس.
دائما يقنعني بأكثر مبرراته عصيانا على الفهم والمعقولية، أقول في نفسي: لأني أحبه كل هذا الحب، فلابد أن تكون هذه القناعة إحدى مظاهرها التي أتشبث بها كي لا أخسره.
لكن يبدو لي في هذا اللقاء أصبح مختلفا، وهناك شيء ما قد هيمن على تفكيره وروحه. وكأنه أفلت من يده شيئا ثمينا وراح يبحث عنه في كل مكان، مشغولا عمن حوله من أناس، وبعيدا عما يحوطه من أحداث.
أجرب مرة أخرى وأتجرأ في رفع صوتي أمامه: لماذا هذا الصمت المريب الذي يتلبسك لأول مرة؟!
أقترب منه أكثر حتى يكاد مقعدي يلامس مقعده، ثم أهز كتفيه، وأضع عيني أما عينيه، وأقول له: ربما تستطيع أن تأمر سمعك ألا يطيعك. لكن بصرك لا تستطيع الهيمنة عليه، فهو ملكي مثلما هو ملكك.
لذلك لا تتذاكى علي وأخبرني حقيقة ما كنت تظن أنه خطأ فادح.
حرك كرسيه قليلا إلى الخلف، مد إحدى يديه، واضعا أمامي على الطاولة حقيبة من جلد، سوداء اللون لكنه باهت، يعلوها غبار خفيف، حوافها متجعدة، بفعل الزمن.
ثم فتحها عن آخرها وأخرج مجموعة من الكتب، ونثرها أمامي، وسألني مباشرة: تأمل هذه الكتب من الذي كتبها؟ وكانت ملامح وجهه جادة لا تقبل المزاح..
فقلت متعجبا: إنها لي!!
فرد سريعا ضاربا بكلتا يديه على الطاولة: هذه إذن ما نسميها الخبرة والممارسة، فقد كنت معك لحظة بلحظة في تأليفها، واكتشفت حين سافرت معك وتنقلت من بلد إلى آخر أنك قد ضحيت بهذه الخبرة، وبهذه الممارسة، لأجل شيء واحد هو حريتك التي ربطتها بالترحال والسفر. لكنك نسيت أصدقاءك القدامى.