آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

لباقة الكلام والنجاح الاجتماعي

الشيخ عبد الله اليوسف *

نقصد بلباقة الكلام التحدث مع الآخرين بلطف وكياسة وفطنة مع استخدام أجمل الكلمات وأحسنها، وقول الكلام الحسن بما يتناسب مع كل موقف، والبراعة في إيصال الأفكار إلى المستمعين إليك، وتجنب الألفاظ الجارحة أو المستفزة أو المثيرة للغضب والانزعاج.

واللباقة في اللغة: مأخوذة من كلمة لَبِقَ، لَبقاً، ولَبُقَ، لباقة أي حذق، ظرف، ولانت أخلاقه؛ ولَبَّق الشيء: ليَّنه، واللَّبِق مؤنثه لَبِقَة، واللَّبِيق مؤنثه لَبِيْقَة أي اللَّيِّن الأخلاق، اللطيف، الظريف[1] .

اللباقة إذن هي: الظرافة، واللطافة، ولين الأخلاق.

فاللباقة في الكلام هو أن تكون لطيفاً وظريفاً وحاذقاً في كلامك.

واللباقة في العمل هو أن تكون لطيفاً وخلوقاً في عملك ومع زملائك.

واللباقة في التعامل هو أن تكون لطيفاً وظريفاً وطيّباً وخلوقاً في تعاملك مع الآخرين . . . وهكذا دواليك.

اللباقة في النصوص الدينية

لأهمية اللباقة في الكلام وآثارها الإيجابية على مستوى الأفراد والمجتمع، فقد تضافرت النصوص الدينية في الحث عليها، ورغم أن اللباقة لم ترد بلفظها في النصوص الدينية، ولكن وردت بمعناها ومفرداتها في نصوص متكاثرة، كطيب الكلام، وحسن الكلام، وجمال الكلام، وعذوبة اللسان، وغير ذلك كثير.

فعن حُسن الكلام، قال الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً[2] ، فحسن الكلام من مفردات اللباقة، ومعناه أن تختار أحسن الألفاظ وأجملها، كما يقصد به أيضاً أن تقول للآخرين ما تحب أن يقال فيك، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام عن معنى الآية الشريفة أنه قال: «قولوا للناسِ أحسَنَ ما تُحِبُّونَ أن يُقالَ فيكُم»[3] ، ومن البديهي أن الإنسان يحب أن يقال فيه أجمل الكلمات وأعذب الألفاظ.

وقال الله تعالى: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً[4]  فالقول بالتي هي أَحْسَن من مفردات الكلام اللبق ومرتكزاته، وهو يحافظ على متانة العلاقات الإيمانية الأخوية وديمومتها، وأما الكلام البذيء والفاحش والمستهجن فيسبب العداوات ويجلب الخصومات ويوغر القلوب، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: «إيّاكَ ومُستَهجَنَ الكلامِ؛ فإنّهُ يُوغِرُ القَلبَ»[5] .

وأهل الكلام الحسن إذا سمعوا كلاماً لغواً أعرضوا عنه، وردوا بأطيب الكلام ﴿وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ[6] .

ولمّا سئل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله‏: عن أفضَلِ‏الأعمالِ؟

قال: «إطعامُ الطَّعامِ، وإطيابُ الكلامِ»[7] .

وعنه صلى الله عليه وآله قال: «والذي نفسِي بِيَدِهِ، ما أنفَقَ النّاسُ مِن نَفَقةٍ أحَبَّ مِن قَولِ الخَيرِ»[8] .

ومن اللباقة إتقان فن الكلام بما يتناسب مع من تتحدث معهم، ولذا روي عن الإمام علي عليه السلام: «لِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ»[9]  فمن اللباقة القول السديد والمناسب في المكان المناسب، وأما الكلام وإن كان مناسباً ولكنه إذا قيل في المكان غير المناسب فهذا ليس من اللباقة في شيء، بل هو حماقة قد تجلب الشرور على صاحبها؛ فمثلاً التحدث بالكلام العلمي التخصصي لأناس غير متعلمين يدل على عدم اللباقة في الكلام، وهو خلاف الحكمة، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث مشاكل لسوء الفهم عند الطرف المتلقي، ينقل أن أحد الخطباء كان يخطب لأناس غير متعلمين، فقال من ضمن كلامه: إن المناطقة يقولون: إن الإنسان حيوان ناطق، فأنزلوه من على المنبر وأرادوا ضربه متهمين إياه بأنه يصفهم بالحيوانات!

ويعرف الإنسان اللبق من غيره عندما يتكلم ويتحدث، ولذا روي عن الإمام عليّ عليه السلام: «تَكَلّموا تُعرَفوا؛ فإنّ المَرءَ مَخبوءٌ تَحتَ لِسانِهِ»[10] ، وعنه عليه السلام قال: «يُستَدَلُّ على‏ عَقلِ كُلِّ امرئٍ بما يَجري على‏ لِسانِهِ»[11] .

اللباقة والنجاح

اللباقة صفة مهمة لا غنى عنها لتحقيق النجاح والتميز في جميع مجالات الحياة، ولذا روي عن الإمام علي عليه السلام: «مَن حَسُنَ كلامُهُ كانَ النُّجحُ أمامَهُ»[12] .

وهي أيضاً مهارة لا زمة للنجاح في بناء العلاقات الاجتماعية العامة، وفي كسب الأصدقاء والأحبة، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: «مَن عَذُبَ لِسانُهُ كَثُرَ إخوانُهُ»[13] ، وعنه عليه السلام قال: «عَوِّدْ لِسانَكَ لِينَ الكلامِ وبَذلَ السَّلامِ، يَكثُرْ مُحِبُّوكَ وَيقِلَّ مُبغِضُوكَ»[14] ، وعنه عليه السلام قال: «مَن لانَت كَلِمَتُهُ وَجَبَت مَحَبَّتُهُ»[15] .

وأما إحراج الآخرين واستفزازهم فيؤدي إلى خسارة الأصدقاء فضلاً عن غيرهم، فقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام: «إيّاكَ أن تُخرِجَ صَديقَكَ إخراجاً يُخرِجُهُ عَن مَوَدَّتِكَ، واستَبقِ لَهُ مِن انسِكَ مَوضِعاً يَثِقُ بِالرُّجوعِ إلَيهِ»[16] ، وعنه عليه السلام قال: «أعجَزُ النّاسِ مَن عَجَزَ عنِ اكتسابِ الإخوانِ، وأعجَزُ مِنهُ مَن ضَيّعَ مَن‏ ظَفِرَ بهِ مِنهُم»[17] ، فتضييع الأصدقاء إنما يتم بسبب الفظاظة في التعامل، والفحش في الكلام، والبذاءة في اللسان؛ وأما من يكون كلامه لبقاً ومهذباً فإنه يحافظ على أصدقائه ومحبيه، ويكثر معارفه ومريدوه.

والإنسان غير اللبق في ألفاظه، أو البذيء في كلامه يخسر حتى أقرب الناس إليه فضلاً عن الأباعد، ولا يمكنه بناء أي علاقات اجتماعية ناجحة؛ لأن الناس تنفر منه، وتتجنب مصادقته، ويفشل في حياته، ورد عن الإمام علي عليه السلام: «مَن ساءَ لَفظُهُ ساءَ حَظُّهُ»[18] ، وعنه عليه السلام قال: «إيّاكَ وما يُستَهجَنُ مِن الكلامِ؛ فإنّهُ يَحبِسُ علَيكَ اللِّئامَ ويُنَفِّرُ عنكَ الكِرامَ»[19] .

كيف تكون إنساناً لبقاً؟

حتى يكون الإنسان لبقاً في كلامه عليه مراعاة القواعد الآتية:

1) التفكير فيل الكلام: على المرء أن يفكر جيداً قبل الكلام فيما سيقوله، وأن يختار كلامه بعناية؛ فالتسرع في الكلام، والرد على كل شيء بصورة فورية قد يوقع المرء في أخطاء كبيرة، ويفقده القدرة على اللباقة وحُسن الكلام.

2) اختيار الكلمات الجميلة: من صفات الإنسان اللبق اختيار الكلمات الجميلة والمناسبة بعناية، واستخدام الألفاظ الحسنة للتعبير عن أفكاره وآرائه حتى تكون مهذباً في كلامك، ومنطقياً في حديثك، وتجنب كل ما من شأنه استفزاز الآخرين أو التقليل من شأنهم أو جرح مشاعرهم.

3) التدرب على طيب الكلام: على المرء أن يتدرب على لباقة الكلام شيئاً فشيئاً حتى يكون لبقاً في كلامه ومهذباً في منطقه، فلن تكون إنساناً لبقاً بين ليلة وضحاها، بل لابد من فترة زمنية مناسبة، يلازمها تواصل اجتماعي مكثف مع الناس، إذ عبر العلاقات الاجتماعية ومجالسة أهل اللباقة واللطافة ستتعلم منهم حسن الكلام، وجمال المنطق، ولباقة الحديث.

4) تفهم نفسيات الآخرين وطبائعهم: حتى تكون لبقاً في كلامك تفهم عقليات الآخرين ونفسياتهم، فالناس تختلف في طبائعها وأمزجتها، وحتى تتعامل بلباقة معهم اعرف شخصياتهم بدقة أولاً حتى تتمكن من الحديث معهم بلباقة ولياقة.

كما أن معرفة مفاتيح القلوب المختلفة، هي سرّ من أسرار النجاح عند جميع الذين حققوا نجاحات باهرة على صعيد بناء العلاقات العامة وتكوين صداقات ناجحة ومثمرة.

إنّ معرفة عقليات من تتعامل معهم وطريقة تفكيرهم، وتفهم نفسياتهم، هي ركيزة مهمة نحو تعامل لبق معهم، وأما من لا يفهم إلاّ طبائع نفسه، ولا يحترم إلاّ آراءه الشخصية، فلن يكون بالتأكيد إلا فظاً في تعامله مع الآخرين، وفاحشاً عند الحديث معهم وعنهم!

5)الاحترام والتقدير: التعامل مع الآخرين باحترام وتقدير يجعلك تخاطبهم بلباقة وأدب؛ لأن الاحترام يستلزم مراعاة مشاعرهم، ومخاطبة عقولهم بما يناسبهم، وأما من ينظر إلى غيره باستخفاف فلن يكون لبقاً في كلامه ومنطقه.

6) الثقة بالنفس: يحتاج الإنسان أن يثق بنفسه حتى يكون لبقاً في كلامه، لأن الثقة بالذات من مقومات الكلام الحسن والجميل، وأما من لا يثق بنفسه تراه مضطرباً في كلامه، متناقضاً في أقواله وأفعاله.

7) إتقان فنون الكلام: ليس مهماً أن تتكلم فحسب، بل المهم أن تتقن فن الكلام وتتفنن في التعبير عن آرائك وأفكارك بلباقة، ويستلزم ذلك أيضاً: الهدوء حين الكلام، عدم رفع الصوت، تجنب مقاطعة الطرف الآخر، حسن الاستماع إليه، الاختصار في الكلام.

8) لغة الجسد الإيجابية: يجب الحرص على مراعاة لغة الجسد الإيجابية حين التحدث مع الآخرين، فتتطابق لغة جسدك مع حسن كلامك؛ ومن ذلك أن تُقبل بوجهك كله تجاه من تتحدث معه، وأن تتبسم في وجهه، وتحافظ على الاتصال البصري معه حتى تبعث إليه برسالة محبة واطمئنان وراحة، وليس من اللباقة أن تتحدث مع الآخرين وأنت معرض بوجهك عنهم، أو تقابلهم بوجه عبوس.

9) التناسب بين المقال والأشخاص: من اللباقة أن يتناسب كلامك مع مستوى من تتحدث معه، فليس من اللباقة أن تتحدث بمصطلحات فلسفية – مثلاً – مع من لا يفقه شيئاً في الفلسفة، ولا في مصطلحات علم الأصول مع من لا نصيب له فيه؛ بل ينبغي مراعاة التناسب بين الكلام والمخاطب به؛ وكما روي عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله: «إنّا مَعاشِرَ الأنبياءِ أُمِرنا أن نُكلِّمَ النّاسَ على‏ قَدرِ عُقولِهِم»[20] .

10) التحدث بوضوح: من اللباقة أن تتحدث بشكل مفهوم وواضح للمخاطب، وتتجنب استخدام الكلمات والمصطلحات غير المفهومة، أو التي يساء فهمها، أو يمكن تأويلها لأكثر من وجه، كما ينبغي مراعاة المستوى العلمي والفئة العُمرية لمن تتحدث معهم.

[1] المنجد في اللغة: ص711.
[2] البقرة: 83.
[3] الكافي: 2/ 165/ 10.
[4] الإسراء: 53.
[5] غرر الحكم: 2675.
[6] القصص: 55.
[7] بحار الأنوار: 68/ 312/ 12.
[8] بحار الأنوار: 68/ 311/ 8.
[9] غرر الحكم: 7293.
[10] نهج البلاغة: الحكمة 392.
[11] غرر الحكم: 10957.
[12] غرر الحكم: 8495.
[13] غرر الحكم: 7761.
[14] غرر الحكم: 6231.
[15] تحف العقول: 91، غرر الحكم: 7941، بحار الأنوار: 68/ 396/ 79؛ المناقب للخوارزمي: 368/ 385 وفيه «مودّته» بدل «محبّته».
[16] غرر الحكم: 2687.
[17] نهج البلاغة: الحكمة 12.
[18] غرر الحكم: 9173.
[19] غرر الحكم: 2722.
[20] بحار الأنوار: 74/ 140/ 19.