والدي وبي بي سي
أثار خبر وجود خطة لإغلاق البث الإذاعي لبي بي سي باللغة العربية ولغات أخرى من أجل توفير النفقات، شجونا لدى الكثيرين وذلك بعد نحو أربع وثمانين عاما على انطلاقها. وقد تداعت إلى ذهني بعض الذكريات عن هذه الإذاعة العريقة التي تعتبر الأولى باللغة العربية في العالم.
فمنذ أن فتحت عيني على هذه الدنيا وأنا أرى والدي «رحمه الله» وهو يستمع لبرامج الإذاعة وأخبارها، واستمرت دقات ساعة بيغ بن تدوي لسنوات في بيتنا القديم في حي الكوت بالهفوف عبر الراديو القديم الذي كان يستخدمه.
فرغم أنه كان يعرف القراءة والكتابة إلا أنه كان يقرأ بصعوبة، كما أن نظره لم يكن يساعده في ذلك. ولذلك فإنه كان يستعين بآخرين لكي يقرؤا له كتب الأدب والشعر والتاريخ العربي. ولطالما طلب مني أن أقرأ له من الكتب التي كان يحصل عليها من هنا وهناك ومن بينها بعض الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة القطرية بالهفوف. ورغم أنني لم أكن أفهم بعض ما كنت أقرؤه آنذاك لصغر سني، إلا أن هذا شكل خلفية ثقافية صلبة لي في السنوات التالية من حياتي.
وقد كانت الإذاعات بالفعل ولفترات طويلة هي المصدر الأساس للمعلومة والخبر في بلادنا وفي العالم لسنوات طوال. وجاءت كلمة راديو من الكلمة اللاتينية راديوس «Radius» والتي تعني نصف قطر لدائرة وهو ما يمثل إرسال موجات الراديو عبر الأثير على شكل دوائر.
وقد قال لي والدي عدة مرات إنه كان مثلا يتابع أخبار الحرب العالمية الثانية «1939-1945» من إذاعة ألمانية «إذاعة برلين» والتي كانت تبث باللغة العربية حيث كان لدى أحد سكان مدينة الهفوف مذياعا يقوم بتشغيله في دروازة الخميس فيتحلق حوله بعض المهتمين لسماع تطورات الحرب.
لكن الإذاعة التي كان أبي متعلقا بها لدرجة كبيرة كانت إذاعة لندن والتي كانت تتفوق على جميع الإذاعات الأخرى في أعداد المستمعين لها ولقلة الإذاعات في العالم في ذلك الوقت. فقد بدأت أول إذاعة عربية رسمية في القاهرة في عام 1934م، بينما لم يبدأ البث الإذاعي في المملكة العربية السعودية إلا في 19 يوليو 1949م.
أما البرنامج الذي كان والدي متعلقا به بعد سماعه للأخبار، ولا يمكن أن يفوته أبدا إلا في ظرف قاهر، فقد كان برنامج ندوة المستمعين. وكان البرنامج عبارة عن فقرات متنوعة في الأدب والشعر والتاريخ والطرف والمنوعات والتي كانت في غالبها من رسائل المستمعين للإذاعة. ومن مقدمات هذا البرنامج والتي كان أشهر مذيعيه الإذاعي الشهير الأستاذ رشاد رمضان: «ندوة المستمعين.. لقاء يومي مع رسائلكم، مع أفكاركم، مع اقتراحاتكم وخواطركم، مع المستمع العربي في كل مكان ومعكم في هذا البرنامج رشاد رمضان..».
وقد بلغ من تعلق والدي «رحمه الله» بالبرنامج أنه أراد «قبل أكثر من خمسين عاما» أن يسمي إحدى بناته «ندوة». إلا أننا اعترضنا على ذلك لعدم وجود هكذا اسم في البلد وأنه قد يكون مورد تهكم عليه وعليها. وبعد أيام من النقاش اقترحت على الوالد أن نسمى أختى «ندى» فهو اسم قريب من «ندوة» التي يحبها فوافق بعد تفكير، لكنه رغم ذلك بقي يناديها ندوة في الغالب!
وقد كان الوالد يستشهد بالقصص التي ترد في البرنامج في المجالس التي يحضرها، كما كان يحفظ بعض أبيات الشعر التي ترد فيه ويرددها في أوقات فراغه أو مع بعض أصدقائه.
سوف تتوقف الإذاعة لكنها باقية في أذهان وذاكرة الكثيرين في العالم العربي وشكلت، رغم التغيرات التي طالتها، جزءا هاما من واقع الناس لفترات زمنية طويلة.