آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

الأحساء والحاجة إلى مراكز بحوث متخصصة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

وجود مركز دراسات متخصص لدراسة المجتمع الأحسائي من جميع جوانبه: التاريخية والاقتصادية والسياسية والأنثروبولوجية والدينية مطلب ضروري، تفرضه التحولات الحضارية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها المنطقة والعالم.

ناهيك عن المجتمعات التي لم يتحول تاريخها من الحالة الشفوية إلى الحالة الكتابية، كالتاريخ الأحسائي، تؤكد هذه الضرورة، وتضيف سببا على آخر، في مطالبة الجهات المعنية في الدفع به إلى التحقق على أرض الواقع.

صحيح أنه كانت هناك جهود حثيثة في كتابة التاريخ الأحسائي على أيدي مؤرخين متخصصين، وأكاديميين متميزين، ومثقفين باحثين جادين، وجلهم من أبناء المنطقة الحريصين على إبراز التاريخ الحضاري للأحساء، وآخرين أيضا من خارج المنطقة يجمعهم الاهتمام بتراث المنطقة.

لكن جميع هذه الجهود، رغم فرادتها وتميزها، تظل في الأغلب الأعم جهودا فردية، لا تتناسب وحجم الأهمية التي تحظى بها المدينة من موقع ومن مكانة، تاريخيا على الأقل.

لكن العمل المؤسساتي ضمن برامج متخصصة، وفي إطار رؤية شاملة، وعميقة الأبعاد والأهداف، هي من صميم المهام التي تناط بعمل مراكز البحوث، وإذا كانت رؤية الأمير محمد بن سلمان من أهدافها الكبرى أن تفتح الباب على مصراعيه في تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع المعرفة، فإن اللحظة الراهنة تتطلب وجود مثل هذا المركز، على اعتبار أنها لحظة تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية، لا يمكن رصدها وتحليلها إلا على أساس قاعدة بيانات ومعلومات يُبنى عليها الكثير من النتائج والآراء التي غالبا ما تكون قريبة من الواقع والموضوعية.

يضاف إلى ذلك من أسباب أخرى، الشعور بالحس التاريخي عند الفرد الأحسائي، الذي يمكن ملاحظته من خلال الحراك الاجتماعي اليومي والمناسباتي الاجتماعي أو الديني التي تتعلق بالعادات والتقاليد الموروثة، لا تنفك تؤكد مرة بعد أخرى على أن الأحسائي كائن تاريخي بامتياز.

وهذا الأمر يرفعه درجة في سياق كون الإنسان بشكل عام كائنا تاريخيا بطبعه، بسبب أن المدينة ذاتها هي بالأساس لم تتحول - إلا لماما - من الطور التاريخي إلى الطور الحضاري المعاصر، وتبعا لذلك يبقى فضاء المدينة، بما تمتاز به من تنوع في المساحات المكانية ذات الطابع المعماري التقليدي، وما تمتاز به أيضا من تجاور سكاني، ينتج قيما وعلاقات اجتماعية، لا تزال محكومة بالعادات والتقاليد المتوارثة.

الأمر الذي يجعلنا نطلق على الفرد الأحسائي هذه الصفة التاريخية كعلامة على هويته الشخصية، أكثر من غيرها في سياق هوايته الأخرى.

ويمكن الإشارة أيضا، إلى أن ثمة ظواهر لها دلالة في هذا السياق، منها انتشار المتاحف الشخصية في عموم المحافظة، التي توثق كل ما يرتبط بهذا التاريخ من مأكل ومشرب وملبس وأدوات للزينة وأوان للطبخ، ومنها المتاحف التي اعتنى أصحابها بجمع المخطوطات والكتب النادرة القديمة، التي لها علاقة بتاريخ الأحساء والجزيرة العربية، ومنها تلك المتاحف التي اعتنت خصوصا بالحرف اليدوية المتنوعة التي احترفها أهل الأحساء على امتداد تاريخهم.

وهناك أيضا الكثير من أهالي الأحساء يمتازون بموهبة القص الشعبي الممزوج بالأسطورة أحيانا وبالخرافة أحيانا أخرى، وهي ظاهرة سردية، لم يتجاوز توثيقها، رغم أهميتها التوثيقية للدراسات الأكاديمية، مسامرات الأصدقاء والأصحاب في المجالس والبيوت العائلية والمناسبات الاجتماعية.

كل ذلك مما تقدم، له دلالة في سياق موضوعنا، فهو يؤكد على ضرورة وجود مركز بحوث ودراسات يضم هذه الظواهر، وينظم وجودها، ومن ثم تكون فاعليتها أكبر وأكثر جدوى، على الرغم مما نشاهده، سواء من هنا أو هناك عبر مراكز غير متخصصة، غالبا ما تكون تابعة لجهات رسمية، تساهم بطريقة أو أخرى، في إنتاج معرفة موضوعية علمية بالمجتمع الأحسائي.

لكن قد يتبادر إلى أذهان البعض - من جهة أخرى - أن ثمة مراكز أخرى متوافرة في بعض مناطق المملكة، ويمكن أن تقوم بالدور المناط الذي تحتاجه منطقة أو مدينة أخرى، لا يتوافر فيها مثل هذه المراكز.

قد يكون مثل هذا الكلام صحيحا من جهة. لكنه من جهة أخرى يفتقر للحقيقة التالية: كلما انتشرت مراكز البحوث والدراسات المتخصصة في العلوم الإنسانية كان التحول إلى مجتمع المعرفة أسرع وأكثر قوة وفاعلية، في ثقافة معاصرة لا ترتكز في قوتها سوى على هذا النوع من التحول.