آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

بريطانيا بعد رحيل الملكة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

رحلت ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية عن عمر ناهز الستة وتسعين عاماً، وتَربُع على العرش استمر سبعين عاماً، عاصرت خلالها المملكة المتحدة أحداثاً جساماً، وتحولت بلادها من إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس، وتهمين على أجزاء كبيرة من المعمورة، وفي جميع القارات، إلى دولة تعيش على أمجادها الماضية، وتحتفظ بعلاقات اعتبارية جيدة مع عدد من مستعمراتها السابقة، تحت مظلة ما صار يعرف بالكومنولث البريطاني. وتعود جذور الملكية في بريطانيا إلى العصور الوسطى، ولم تنقطع عن الحكم إلا في فترات قصيرة جداً.

وخلال فترة حكم الملكة إليزابيث الثانية، استمر تداول السلطة بين الحزبين الرئيسيين: حزب المحافظين ويمثل الأولغارشية، وحزب العمال ويمثل الطبقة المتوسطة. يدير حزب المحافظين الحكم، بالطريقة التي يديرها الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة؛ حيث تتبنى برامجه تخفيض الضرائب، والحرية الاقتصادية، وتخليص الدولة من أعباء الخدمات الاجتماعية، وتقليص أعداد موظفيها. كما تتبنى سياسات حادة تجاه المهاجرين من بلدان العالم الثالث. وتتسبب هذه السياسات في نهاية المطاف، بحدوث انكماش اقتصادي.

أما حزب العمال فهو أقرب إلى سياسات الحزب الديمقراطي في أمريكا؛ حيث يتبنى زيادة الضرائب، وسياسات أكثر انفتاحاً في القضايا الاجتماعية. وتؤدي سياساته في الغالب، إلى تضخم في أجهزة الدولة، وتراجع في أعداد العاطلين. ويتبنى الحزبان سياسات خارجية متقاربة، وتحكم حالة الانكماش أو التضخم وصول أحدهما إلى السلطة.

تسلم الابن الأكبر للملكة، تشارلز الملك، بعد أمه. وحمل اسم «تشارلز الثالث». فقد سبقه ملكان يحملان اسم تشارلز. كان تشارلز الأول، قد أطيح به، وتم إعدامه في قصر وايت هول، في يناير/كانون الثاني عام 1649، إثر انتصار ثورة المتطهرين بقيادة الجنرال أوليفر كرومويل، وإعلان الجمهورية، التي لم تعمر أكثر من تسع سنوات. وقد تأثرت تلك الثورة، بحركة الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر في ألمانيا، وجون كالفن في فرنسا، والأفكار الرومانسية التي بشرت بالديمقراطية، والعقلانية القانونية، التي اعتبرها ماكس فيبر، الوليدة الشرعية للبروتساتنية.

سقطت الجمهورية، وأعدم قائدها أوليفر كرومويل، وتسلم ابن الملك تشارلز، والذي يحمل نفس اسمه، العرش ومنح لقب الملك «تشارلز الثاني»، لكن مبادئ الثورة بقية حية، على الرغم من القضاء المبرم على قياداتها. وقد فرضت تلك المبادئ نفسها على الحياة في بريطانيا، وباتت جزءاً من بنائها وتاريخها السياسي، منذ ذلك الحين. وحين وصل تشارلز الثاني للعرش، عام 1658م، كان التأثير السياسي لتلك الأفكار واضحاً في الهياكل والتقاليد الجديدة للإمبراطورية. لكن هذا التغير اتخذ طابعاً تدريجياً؛ حيث كانت السلطة توزع بين الملكيين والبرلمانيين، وأيضاً على أسس تقاسم مراكز القوة بين الكنيستين، إلى أن تحولت بعد سنوات طوال إلى الصيغة الراهنة، التي تقضي بأن الملك يملك ولا يحكم. وهي صيغة تحجب عن الملك حق اتخاذ القرارات السياسية، وتمنعه من التدخل في الشؤون السياسية، أو الإدلاء بأي تصريح، يتضمن رأياً أو موقفاً سياسياً.

لا يوجد في بريطانيا، دستور مكتوب، على الرغم من أنها تعتبر الأعرق بين النظم الديمقراطية في العالم، وإنما توجد تقاليد وأعراف، مدعومة بلوائح ونظم متفرقة، تخص تسيير أجهزة الدولة، والعلاقة بين السلطة التشريعية والعرش. وقد سار على هذا النهج، فيما بعد، عدد من الدول التي انتهجت أسلوب الحكم البريطاني. وهو أسلوب، يكون القول الفصل فيه للهيئة التشريعية «البرلمان»، ويشكل الحزب الذي يحصد غالبية الأصوات، الحكومة. وهذا النظام يختلف كثيراً عن النظام الأمريكي، الذي يعتبر نظاماً رئاسياً، يمارس فيه الرئيس المنتخب، مباشرة من الشعب، وفقاً للدستور صلاحياته، وحقه في تشكيل الحكومة، وبقية الأجهزة التنفيذية، ويقتصر فيه دور الكونغرس، على التشريع، وسن القرارات، أو الموافقة أو الرفض، على المشاريع والقرارات التي يطرحها الرئيس.

ومنذ عدة سنوات، بدأت المطالبات تتصاعد، منادية بالتخلي عن النظام الملكي، باعتبار أنه شكلي، ولا يملك أي صلاحية، وأنه يشكل عبئاً على خزينة الدولة، ومن ضمن الأصوات التي طالبت، في مرحلة سابقة من حياتها، بإلغاء الملكية، رئيسة الوزراء البريطانية، ليز تراس، التي وصلت حديثاً إلى الحكم.

وبعد رحيل الملكة، ترتفع الأصوات مجدداً، من قبل عدد من أعضاء البرلمان، مطالبة بالتخلي عن النظام الملكي. لكن ذلك يبدو أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، في الوقت الراهن. فغالبية البريطانيين، يرون في وجود الملكية استمرارية تاريخية فريدة، لنظام ساد قرابة أربعة قرون، وبات جزءاً من التراث والفلكلور البريطاني، ينبغي حمايته والحفاظ عليه. الأيام القادمة ستتكفل بالإجابة عن السؤال الذي طرحناه في صدر هذا الحديث: هل سيكون رحيل الملكة استمرارية أم انقطاع؟