جدل الهوية الفردية وتأزماتها
لاحظت في هذه الأيام انبعاثاً مستجداً للنقاش حول الهوية. وقد وصلتني أسئلة من أصدقاء، أثار اهتمامهم ما كُتب حول الفردانية والاستقلال وقابليتها للتمييز عن الهويات الأخرى ذات البُعد الجمعي.
هذه نقاشات يريد الخليجيون أن يجدوا لها نهاية مريحة. لكن غالبيتهم يواجهون خيارات صعبة، نظراً لارتباط المسألة بما يعتبر تحولاً في مفهوم التدين أو حدوده.
ليس سراً أن هذا الجانب هو الجزء الأكثر إثارة، في جدل الهوية في مجتمعات الشرق الأوسط. إن محرك هذا الجدل هو ميل قطاع معتبر من الجيل الجديد لتعريف أنفسهم كأفراد مستقلين، يختارون شروط تدينهم ومقدار تأثيره على حياتهم اليومية. هذه الرغبة تبدو بسيطة واعتيادية في أيامنا هذه، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى التي تلقت تعليماً حديثاً. لكنَّها مع ذلك تثير قلقاً كبيراً، وربما أثارت نزاعات عائلية واجتماعية.
السبب معروف لدى معظم الناس، وخلاصته أنَّ المنطقة شهدت طيلة العقود الخمسة الماضية تشديداً على أولوية الهوية الدينية، وكونها مزاحمة للهويات الموازية، الفردية والجمعية. وقد تعمق هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، واستخدمت فيه الموارد العامة، فتحول إلى نوع من القسر الثقافي والاجتماعي الذي لا يترك مجالاً لأي تعبيرات موازية أو بديلة.
وفي هذا السياق، بات كل مواطن مطالباً بأن يحدد موقفه الثقافي/ الديني وموقعه الاجتماعي، مع التيارات المختلفة أو ضدها. والضد يشمل بطبيعة الحال أتباع الأديان الأخرى، والمنتمين لتيارات ثقافية أو اجتماعية صنفت معادية، مثل أنصار الحداثة في الأدب والحركة النسوية، فضلاً على أتباع المذاهب الإسلامية.
فيما يخص التمايز الاجتماعي، يقول الكاتب عبد الله بن بخيت في مقال له في صحيفة عكاظ السعودية، إنه عايش كثيراً من زملاء العمل الشيعة، لكنه نادراً ما تنبه للفارق المذهبي. أما في الفترة المشار إليها أعلاه «والتي يطلق عليها إجمالاً اسم الصحوة» فقد بدأ يتحسس ويتعرف على نقاط الفرق، في الكلام العابر وفي الأسماء والملابس والاهتمامات، بدأ يشعر أنه وإياهم لا يشكِّلون مجتمعاً واحداً، كما تخيَّل في الماضي. يرجع السبب إلى كثافة التوجيه الديني، الذي يؤكد الفوارق والحدود ويحذِّر من التماهي والاندماج.
خلال السنوات الأخيرة، باتت الدعوة لإنهاء تلك الحقبة وما جاء في سياقها فكرة ثابتة في أعمال المثقفين والكتَّاب الخليجيين.
كما أن تسارع التحوُّل إلى الحداثة في السنوات الأخيرة، وعودة نحو ربع مليون مبتعث للجامعات الأجنبية، ساهم في تعميق هذا الاتجاه. لكنه - كأي تحوُّل اجتماعي - يلقى مقاومة من جانب شريحة مستفيدة من الحال السابق، وأخرى قلقة من أن يؤدي هذا التحول إلى الإضرار بالصبغة المحافظة للمجتمع. يبدو لي أن الانتقال إلى الحداثة غدا قدَراً لا مفر منه، وأن التحول الاجتماعي يتسع ويتعمق يوما بعد يوم. لكن - كما أسلفت - ستكون ثمة كبوات وأثمان، وهذي من طبائع الأمور.