العراق.. بين المواطنة وشبح التفتيت
أكثر من ثلاثين قتيلاً، وأربعمئة جريح، هي حصيلة المواجهات الدامية التي حدثت بين أنصار التيار الصدري، وخصومه من «الإطار التنسيقي»، التي شهدها الموقع الرئيسي للدولة العراقية، والذي بات يعرف بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، ب «المنطقة الخضراء».
وكانت مدينة البصرة شهدت اشتباكات أخرى، بين «سرايا السلام» الجناح العسكري للتيار الصدري، و«عصائب أهل الحق»، أحد فصائل «الحشد الشعبي»، في اليوم الثاني، لانفضاض المواجهات في بغداد، بعد توجيه من مقتدى الصدر لأنصاره بالتوقف عن الاعتصام، والانسحاب التام من المنطقة الخضراء، وفي الناصرية، جنوبي العراق، هاجمت جماعات من أنصار التيار الصدري، مقرات لتنظيمات مسلحة، واستولت على سيارات وأسلحة.
الأسباب المباشرة، للصراعات الأخيرة، هي الأزمة السياسية الخطيرة، التي اندلعت بعد بروز نتائج الانتخابات النيابية، في أكتوبر/ تشرين الماضي، والتي حصد فيها التيار الصدري أغلبية المقاعد، وكان من نتائجها عدم التوصل لاختيار رئيس وزراء جديد للحكومة، وتشكيل وزارة عراقية.
والواقع، أن الأزمة الأخيرة لم تكن الأولى في الصراع بين التيار الصدري، وخصومه من التيارات الأخرى، ولكنها الأكثر مرارة وحدّة. ورغم أن الكثير من التحليلات ترجعها لأسباب داخلية محضة، لكن قراءة المشهد السياسي الراهن في العراق تشي بغير ذلك.
فتدخلات القوى الإقليمية والدولية في شؤون هذا البلد العريق، وتبعية أحزابه السياسية لها، ليست موضع تساؤل وشك، بل إن عدداً من هذه الأحزاب، قد تأسست وتمركزت خارج العراق، وبرعاية مباشرة وتوجيه من القوى الخارجية، ووصلت له على ظهر دبابات الاحتلال.
ما يهمنا في هذا الحديث، ليست قراءة وتحليل ما جرى مؤخراً، بل وضعه في سياق تاريخي يستوعب الأسباب الحقيقية، لعدم الاستقرار، وانفلات الأمن وشيوع الفساد، في أرض السواد، منذ الاحتلال حتى يومنا هذا. وهي أسباب لا تقتصر للأسف على العراق وحده، بل تشمل سلسلة طويلة من الأقطار العربية، من ضمنها ليبيا واليمن وسوريا والسودان ولبنان، وجميعها تعود إلى هشاشة هياكل الدولة، وعدم قدرتها على أداء المهام التي يفترض أن تضطلع بها.
فالاحتلال الأمريكي لم يكتف بما حققه من تدمير للبنية الأساسية للعراق، بل عمد إلى تفكيك مفاصل الدولة، وحلّ الجيش والمؤسسات الأمنية، التي كان بإمكانها أن تحافظ على السلم الاجتماعي، وأرواح الناس وأمنهم. وقد أسهم ذلك في شيوع انفلات أمني لم يشهده العراق، في تاريخه المعاصر. وتزامن هذا التفكيك، مع تدشين عملية سياسية، هندس لها المندوب السامي للاحتلال بول برايمر، قائمة على فيدرالية الطوائف والإثنية، كان من نتائجها المباشرة، غلبة الانتماء الطائفي على الانتماء للوطن. ولم يكن ذلك قراراً اعتباطياً، بل عمد إلى بقاء العراق كياناً ضعيفاً، غير قادر على الذود عن حياض الوطن، ولا المشاركة مع أشقائه العرب في حماية الأمن القومي، والتصدي بقوة للمخاطر والتحديات التي تحيق بالأمة.
إن متواليات التفكيك، حين يجري تعميمها لا تقف عند حد معين، فالصراع على المصالح، بين شخوص قوى المحاصصة، يجر إلى استنزاف خزينة الدولة، واستفحال الفساد، الذي بات حال العراق مضرب مثل فيه. وغياب الجيش وانفلات الأمن يجعل من البلد أرضاً مستباحة، لكل من هبّ ودب.
وبالتلازم، يجري استنزاف ثروات العراق، من قبل لصوص المحاصصات في الداخل، وعصابات السطو من الخارج. وكلما ازداد النهب، كلما تفاقمت حالات الانقسام والتذرّر، وتحولت إلى شبح يهدد باندلاع الحروب الأهلية.
الوضع الراهن في العراق، ليس قضية تخص العراقيين وحدهم، وإنما هو قضية الأمن العربي بأشمله. إنه تحدي وجود الأمة، في حاضرها ومستقبلها. وقد أكدنا في مقالات نشرت قبل وبعد احتلال العراق، أن المحتل يعمل على أن يكون العراق، هو المختبر الأول، للمحاصصات ومصادرة عقيدة الانتماء الوطني والقومي. وقد جاء الخريف العاصف، ملحفاً“بالربيع”لتعميم تجربة المحاصصة على ليبيا واليمن وسوريا بشكل معلن، وكان لبنان سبق الجميع في هذا المضمار، منذ عشية الاستقلال عن الفرنسيين، حتى يومنا هذا. والقائمة لن تنتهي عند هذا الحد.
تعافي العراق من محنته رهن بتجاوز تركة الاحتلال، بإلغاء نظام المحاصصة، واستعادة مبدأ المواطنة الكاملة لكل أفراده، وبناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات في الداخل والخارج، وهي استراتيجية عملية ينبغي العمل بها حيثما اشتعل مرجل التفتيت، في البلدان العربية التي أشرنا لها. وذلك هو السبيل ليس لإنقاذ هذه البلدان فقط، بل ولاستعادة قوة الأمة العربية بأسرها، في مرحلة تحولات دراماتيكية عالمية صعبة ودقيقة.