عبق المقاهي
تصبح نفسي طليقة من عقال الهموم متعمقة في صفاء الهدوء، مشابهة لنسمة باردة في قائظة، حيث أغدو في المكان الملائم لقلبي متوحدة مع أفكاري، رخيّة البال، استنشق نسيم الراحة وسط ضجيج الأكواب ورائحة قهوة كالسيل الهادر تسكن المشاعر الفائرة وتهدي القلب الثائر، هذه المشاعر تأتي مندفعة مرة واحدة كلما دخلت مقهى، لا أعلم متى بدأت علاقتي بالمقاهي وبالأخص المقاهي الثقافية ولكني منذ سنوات بعيدة كلما قرأت عن مقهى ثقافي في بلدٍ ما أزور ذلك البلد من أجل ذلك المقهى الذي قرأت عنه، هي ليست مصادفة؛ فتاريخ المقاهي الثقافية قديم وممتد، فكثير من المثقفين حول العالم كان المقهى الثقافي محطة في حياتهم الإبداعية، وكان مكاناً للسجالات والحوارات الثقافية، وشرارة للإبداع والإنتاج الثقافي والإبداعي، والواقع أنه لا يوجد معلومة دقيقة حول أول مقهى افتتح فعلياً ولكن المخطوطات أشارت إلى أنه في أواخر القرن الرابع عشر أو أوائل القرن الخامس عشر عرفت المقاهي وأصبحت شائعة في 1512م، ثم انتشرت في بلدان كثيرة منها فيينا ودمشق وإنجلترا.
ولا يوجد مجال للشك في أن المقهى الذي تأسس عام 1500 يختلف اختلافاً كلياً عن المقهى الذي تأسس عام 1684 سواء في فيينا أو باريس أو أي بلد آخر انتشرت فيه المقاهي، والأكيد أن الموجة الثالثة الحالية التي يقودها المستهلكون والمصنعون والتي تحدث عنها غوردون كير في كتابة ”حبوب البن الساحرة / التاريخ المختصر للقهوة“ أصبحت تتمحور حول ثلاثة عناصر وهي: الحرفية، والجمالية، وإمكانية التتبع. بمعنى أن التفاصيل هي سيدة الموقف، ولكن يظل هناك شيئ يجمع كل هذه المقاهي عبر التاريخ فهي شرارة الأفكار والإبداع وحتى التاريخ السياسي، هي ليست مبالغة إن قلت إن داخل الكثير من محبي الثقافة والأدب والاكتشاف تلك الرغبة المتأججة لتجربة كل مقهى مر به مفكر أو فيلسوف أو حتى كاتب، ومن منا لم يزر بعض المقاهي في القاهرة والتي شهدت ولادة إبداعات الروائي نجيب محفوظ وغيره من المفكرين والكتاب، ومن منا لم تتق نفسه للتعرف على مقاهي باريس التي كانت ساحات نزال ثقافية ومنارة تشع، وكان أول مقهى هو ”بروكوب“ افتتح عام 1689م، كذلك مقهى ”لي دو ماغو“ الذي يقع في الحي اللاتيني، وكانت من رواده سيمون دي بوفوار وسارتر وألبير كامو، فالمقاهي الثقافية لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الحركة الأدبية والثقافية منذ بدايتها، يقول هنري جيمس متحدثاً عن المقاهي في باريس: ”هنا يتمكن المرء من أن يجلس بسلام لساعات دون أن يزعجه النادل، وهنا يتمكن أن يقرأ ويكتب في الصباح، ويقوم بأعماله في الظهيرة ويضحك ويناقش الأصدقاء في الليل“.
وأخيراً عزيزي القارئ هل لديك مقهى خاصاً بك تذهب إليه كلما اشتقت للتفكير والحوار؟