آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 4:24 م

الأحساء وذاكرة المجتمع الشيعي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الكلام حول الذاكرة هو بالعادة كلام حول المواقف والقيم والعادات والعلاقات والأفكار والسلوكيات التي تشكل في العمق منها الشخصية الثقافية والاجتماعية للأفراد الذين ينتظمون في مجتمع معين.

والذاكرة تبعا لذلك هي مجموعة من الأحداث والسرديات الراسخة والمشهورة في أوساط المجتمع المتصلة بطريقة أو بأخرى بأفعال هذه الشخصية وحياتها، والمتصلة أيضا بهويتها التي تظهر بها للآخر.

والمجتمع الشيعي بالأحساء كغيره من المجتمعات يمتلك ذاكرة مرت عليها تحولات وتقلبات كانت تستجيب بشكل مباشر للظروف الاجتماعية والاقتصادية والدينية، لا سيما تلك الظروف التي تتقاطع فيها مع التأثير المتبادل بينها وبين ذاكرة المجتمع السني باعتباره المكون التاريخي الآخر للمجتمع الأحسائي.

لكنني سأركز في هذه المقالة، على جانب واحد من هذه التحولات التي طالت الفرد والمجتمع على السواء.

حياة رجل الدين ووجوده «وما أعنيه هنا برجل الدين هو الذي تلقى تعليما حوزويا في النجف أو قم، وقضى وطرا من حياته ليس بالقليل في سبيل العلم والمعرفة» في الوسط الاجتماعي الشيعي له تأثير كبير، وبحكم اتصاله بموروث ديني تقليدي، من أبرز مظاهره أنه يضع رجل الدين موضع العمود الفقري للمجتمع، فهو العارف بأحكام الشريعة التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية، من أحكام زواج وطلاق، وبيع وشراء ومواريث وتعاليم أداء الطقوس الدينية، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل في أغلب الأحيان يتصدى رجل الدين نفسه للصلح بين أفراد أو بين عوائل لمكانته المحترمة بين الناس.

لذلك عندما نقول إن حياة هؤلاء جزء من الذاكرة فإننا نعني بالدرجة الأولى هذا التأثير الذي تحول في جانب منه، إلى ما يشبه النجومية في ثقافة عصرنا الحالي، فكل ما يتعلق بحياته يصبح معلوما ومشهورا عند غالبية الناس، وبالتالي كل تاريخ ارتبط به من أقوال وأفعال يصبح معلما يستعاد فيه ذكراه، إن كان متوفيا أو تكريما لشخصه إن كان حيا، وهو ما يفضي إلى تكريسه كنموذج تربوي تعليمي قيمي للأجيال وعامة الناس، وبالتالي يصبح أيقونة في قلب الذاكرة.

كل ذلك حدث في العقود الماضية ولا يزال يحدث الآن، لكن بوتيرة أقل لأسباب أجملها فيما يلي:

أولا - قبل حرب الخليج الأولى كان الناس غير مسيسين ولم تكن القضايا السياسية تشكل هاجسا في حياتهم اليومية، وتؤثر بالتالي على نظرتهم للحياة الاجتماعية أو نظرتهم للأحداث التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية، وكان ارتباطهم الديني لا يخرج عن حدود الاتباع والتقليد لمراجعهم القابعين في حوزاتهم البعيدة عن الوطن «العراق تحديدا»، وذلك فيما يتعلق بالمسائل الفقهية اليومية، وبالتعاليم التربوية الاجتماعية والعقائدية الموروثة.

ربما وجدنا في فترة الخمسينات والستينات فترة صعود القومية الناصرية والقومية البعثية أفرادا من هنا وهناك يتعاطفون كردود أفعال مع تلك التوجهات والأفكار. لكنها لم تذهب بعيدا في تشكيل تنظيمات أو أحزاب مثلما كانت سائدة في دول المشرق العربي.

ثانيا - هذه الحالة غير المسيسة تقف خلفها الطبيعة المستقرة للفرد الأحسائي باعتباره مزارعا، رغم الهجرات التي حدثت له في فترات تاريخية سابقة، لأسباب ليس لها علاقة بموضوعنا هنا.

هذه الطبيعة المستقرة خلقت للفرد نفسه علاقة وثيقة بأرضه، أشبه ما تكون بعلاقة مقدسة، انعكست بصورة أو بأخرى على خطابه الأدبي الشعبي، بحيث أفضى في الكثير من الحالات إلى ظواهر لافتة، من ضمنها تحويل النخلة كرمز أو أيقونة، لتلك العلاقة، تدور حولها الكثير من القصص العجائبية التي تقال في المجالس، ويستلهمها الكثير من الشعراء في أشعارهم، وذاكرتهم الشفوية ممتلئة بمثل هذه القصص والأشعار، وهي من جهة أخرى، أصبحت ترتبط بأحداث تستعاد من خلالها على كل لسان، يكفي أن تفتح السرد الأدبي الشعبي أو ما يسمى «الإخوانيات» حتى تكتشف الارتباط الوثيق بين الذاكرة وهذا الجانب من الأدب على شخصية الفرد الأحسائي.

والسؤال هنا ما علاقة كل ذلك بمسألة عدم التسييس؟

الجواب يكمن في فكرة الاستقرار نفسها، على اعتبار أنها قيمة ترسخت في الأذهان منذ أن كانت الأحساء موئلا للاستيطان والجذب، وهذه ميزة تتعارض مع ما في الحراك السياسي من عدم استقرار.

لكن ما جرى بعد حرب الخليج هو حديث آخر يرتبط بهذه الذاكرة.