آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

من يعيد جمع شتاتي؟

عبد الباري الدخيل *

«1»

كنت أمشي في المجمع التجاري عندما رن هاتفي المتنقل، كان في الطرف الآخر صديقي محمد، قبل أن أجيب على اتصاله توقعت أنه في أحد مقاهي المجمع، فتوجهت لساحة المطاعم، وأجبته:

- أهلًا

- هلا بيك.. وينك؟

- موجود قريب منك.

- تعال أنا في المقهى.

- انظر للخلف ستجد شابًا وسيمًا يقف هناك.

- رأيته لكنني لم أرك هل أنت خلفه؟

- أنا الوسيم يا بطل.

سلمت عليه وأمسكت بقارورة الماء وتناولت ما فيها مرة واحدة، وأنا أستمع له وهو يقول: هل ستذهب معي مساء الغد للمنتدى؟ المحاضرة لوالد صديقنا سلام عن الحُمُر.

قاطعته: الحُمُر المستنفرة؟

قال وقد ضرب على الطاولة بيده: لا يا.. ثم غير رأيه وأكمل: عن الأدب الروسي.

قلت له وأنا أضع قارورة الماء على الطاولة: يا عزيز فيك ثلاث صفات من أربع في المثقفين.

ابتسم وهو يحثني على ذكرها.

قلت: تحتسي القهوة، وتحضر المنتديات، وتحفظ أسماء الكتّاب والفلاسفة وأسماء الروايات العالمية.

كشّر عن أسنانه رسالةً لعدم الرضا والاستياء من كلامي، ثم سألني بصوت صرير يظهر بين أسنانه: والرابعة؟

قلت مازحًا: عقل يفكّر.

نظر إليَّ نظرة شزراء، وكأنه يخفي بركانًا ويحاول منع انفجاره، وضعت يدي على كتفه وقلت: إنني أمزح يا صديقي.

ابتسم وقال: لا بأس.. تناول فنجان القهوة وقرّبه من فمه ثم سكبه عليَّ وهو يضحك ويقول: إنني مجنون وهذا ما يفعله المجانين.

«2»

في اليوم التالي سبقته إلى المنتدى ناويًا إثارته واستنكارًا لما فعله بي في المقهى، لكنني وجدته سبقني بالحضور، وكأن النية مبيتة مسبقًا.

جلست إلى جانبه أستمع للمتحدث الذي بدأ قبل قدومي.

قال: من منّا لم يقرأ أحد أعمال الكاتب الشهير دوستويفسكي أو على الأقلّ قد سمع باسمه من قبل.

وأضاف: هذا المؤلف والروائي والفيلسوف الروسي يعدّ واحدًا من أشهر الشخصيات الأدبية حول العالم.

«3»

سافرت بي عبارات لتلك الجلسة إلى 10 سنوات مضت أو أكثر، كنت أتهجى لها حروفًا من ورقة:

"في الشارعِ الذي تقيمينَ فيه هناك تسع نساءٍ أجملُ منكِ،

وسبع نساء أطولُ منكِ،

وتسع نساء أقصر منكِ،

وواحدة تُحبّني أكثر مما تفعلين!

‏ولكنني أحبك أنتِ".

قالت: «دوستويفسكي».

قلتُ: لا أعلم.

وضعت فمها بالقرب من أذني وأكملت: ”وفي العمل هناك امرأةٌ تبتسمُ لي دائمًا، ‏وأخرى تستحثني على الكلام، ونادلة في المطعم تضع لي العسل بدلًا من السكر في الشاي“

فأكملتُ: ”ولكنني أحبكِ أنتِ“

وضحكتْ وهي تنظر لوجهي وكأنها تنظر لطفل بدأ يجيد تهجي الحروف.

ولذتُ بالصمت مراقبًا هالة النور التي تنبعث من عينيها ”فالصمت في حرمِ الجمالِ جمالُ“.

اليوم أعود لـ «دوستويفسكي» وأبحث عنها في الشارع الذي كانت تقيم فيه..

تغير اسم الشارع..

وتغيرت ملامحه..

لقد تغير كل شيء بعد أن ذهبت مع الرجل الغريب.

أعادني للواقع صوت التصفيق للمحاضر الذي أنهى كلمته.

وهمست لصديقي: ”وإن أعادوا لنا الأماكن، فمن يعيد لنا الرفاق؟“ ثم غادرت المكان.