أوضاع اقتصادية عالمية صعبة
حدثت أزمة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في فترة صعبة جداً بالنسبة إلى العالم بأسره، فقد جاءت بعد مرحلة كساد وانهيار اقتصادي، عانت منه بشكل خاص البلدان الأكثر فقراً. وجاء التدخل الروسي، وردود الفعل الغربية، تجاه هذا التدخل، لتضاعف من هذه الأوضاع، بما يهدد الأمن الغذائي العالمي، ويسهم في غياب الاستقرار السياسي. ولعل الأزمة الاقتصادية الراهنة هي الأكثر حدة منذ الأزمة الاقتصادية الشهيرة، التي شهدها العالم عام 1928م، والتي كانت واحدة من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ويكفي في هذا السياق، أن نذكّر بتخلخل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في أمريكا والقارة الأوروبية، وهي البلدان الأكثر رخاء وتقدماً على الصعيد الاقتصادي فوق كوكبنا الأرضي.
فالولايات المتحدة، وهي الدولة الأكثر تقدماً على صعيد الصناعة والاقتصاد، باتت تعاني بشكل كبير، من نتائج العقوبات التي فرضتها على الاتحاد الروسي، بعد إقدام إدارة الرئيس بوتين، على إشعال ما بات يطلق عليه بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
وقد تبعت الدول الأوروبية والآسيوية، من حيث ارتفاع أسعار الغار الطبيعي والكهرباء، بما ألحق ضرراً كبيراً، بالمنظومة الصناعية الأمريكية. وقد عبرت إغلاقات مصانع الأسمدة والصلب والكيماويات الأوروبية، ثم توقفت مصانع ضخمة لإنتاج الورق ومعالجة فول الصويا والإلكترونيات في آسيا، عن حدة الأزمة الاقتصادية الراهنة، تاركة بصمات ثقيلة على الصناعة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، أُبلغ 600 عامل في ثاني أكبر مصنع للألمنيوم بأمريكا ويشكل إنتاجه 20% من الإمدادات المحلية أنهم سيفقدون وظائفهم لأن المصنع لا يستطيع تحمل كلفة الكهرباء التي تضاعفت ثلاث مرات في غضون أشهر. وفي السياق نفسه، أشارت شركة «سنتشري ألمنيوم» إلى أنها ستوقف العمل في مصنع هاويسفيل بولاية كنتاكي لمدة تصل إلى عام، مخرجة بذلك أكبر مصانعها الثلاثة في الولايات المتحدة من الخدمة. ويعد هذا القرار من أكبر المؤشرات على ما يمكن أن يحدث من انهيارات اقتصادية مستقبلية، على أمريكا والقارة الأوروبية، والعالم باسره، في حال استمرت العقوبات المفروضة على روسيا، وما يمنح هذا الاستنتاج مصداقية أكثر، هو تحذير مجموعة من المصانع عبر الغرب الأوسط الأمريكي الهيئات التنظيمية الفيدرالية المعنية بالطاقة في مايو/ أيار من أنها على وشك الإغلاق طيلة الصيف، أو لفترة أطول، بسبب ما وصف بتكاليف الكهرباء «غير العادلة وغير المنطقية».
لقد تضاعفت أسعار الغاز الطبيعي منذ بداية يونيو/ حزيران ثلاث مرات، مقارنة بما كانت عليه قبل عام، ما يهدد الأسر والشركات على حد سواء، وتحميلها مسؤولية دفع فواتير خدمات لم يشهد مثلها من قبل. ويتوقع أن تحقق أسعار الكهرباء للعملاء الصناعيين أعلى مستوياتها على الإطلاق بنهاية هذا الصيف، بناء على تنبؤات الحكومة الأمريكية.
وتشير تقارير أمريكية رسمية إلى أن ساعات العمل الإضافي انخفضت في قطاع التصنيع بالفعل لثلاثة أشهر متتالية، في أطول امتداد هبوطي لها منذ 2015. كما تراجع مؤشر أنشطة التصنيع في الولايات المتحدة في يونيو/ حزيران لأدنى مستوياته في عامين مع انكماش الطلبات الجديدة.
وفي أمريكا تحديداً، تسببت كثير من العوامل بارتفاع أسعار الطاقة هذا العام، يأتي على رأسها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والزيادة اللاحقة في صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي إلى الأسواق الخارجية والطقس المتطرف الناجم عن تغير المناخ، فضلاً عن تحييد محطات توليد الكهرباء القديمة التي تعمل بالوقود الأحفوري بوتيرة قياسية. ويضاعف من حدة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة، ما أظهرته بيانات من وزارة الخزانة الأمريكية، أن اليابان والصين، قلصتا حيازاتهما من سندات الخزانة بالأشهر الماضية، إلى أدنى مستويات منذ أعوام عدة. ولا شك في أن رفض الدول المنتجة للنفط زيادة إنتاجها للتعويض عن النفط الروسي، قد أسهم في استفحال أزمة الاقتصاد الأمريكي.
لا يبدو في الأفق القريب أي مخرج للأزمة من غير تغيير في الاستراتيجيات والمواقف السياسية، تجاه ما يجري على الساحة الأوكرانية. وستتواصل الأزمات السياسية التي أدت إلى رحيل رئيس الحكومة البريطانية، ونظيره الإيطالي عن منصبيهما، وربما أسهمت في رحيل أو الإطاحة بعدد آخر، من رؤساء حكومات الدول أخرى.
إن وقف الانهيار الاقتصادي الذي يمر به العالم، بحاجة إلى عمل مبدع وخلاق، وانتهاج سياسات جديدة، قوامها عدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وتحقيق توازن الأمن الدولي، وعدم تفرد دولة ما بالهيمنة على مصير العالم، وما لم يتحقق ذلك، فليس أمامنا سوى المزيد من الانهيارات والخراب.