آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 12:12 ص

فكرة الخلاص والكتابة عند المتصوفة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

فكرة الخلاص لا تتصل فقط بالمنحى الصوفي، هي فكرة عابرة للثقافات العالمية منذ أقدمها، وكل ثقافة في التاريخ كان البحث عن مخلص، سواء كان بشريًّا أو أسطوريًّا، هو محرّكها على التطور والحركة، رأينا ذلك في الأديان الكتابية وغير الكتابية. لاحقا في التاريخ الإسلامي، إذا ما أردنا أن نركز على هذا التاريخ وحسب، دخلت الكتابة في حيّز التصوف، وأصبح التصوف الجسدي يعادل التصوف الكتابي. وكأن هذا الأخير يترجم دلالات التصوف الجسدي، في تراسل متناغم، لا ينفك يعبّر عن ترابط عضوي بينهما. لكن سرعان ما حدث انفراج بينهما، بحيث تحوَّل الأخير إلى تيار جمالي تتحدد سماته من التجربة الكتابية فقط. لكن هذه الانفراجة لا تعني الانفصال التام.

لقد ظلت الكتابة عند أغلب المتصوّفة يُنظر إليها على أنها رياضة روحية ترتبط بالجسد، أي أن الكتابة شكل من أشكال الوحي، وهو نداء، متى ما كان المرء مهيَّأ لتلقي هذا النداء، بعد طول اجتهاد وتمرُّس في الرياضة الروحية والجسدية تكون الكتابة تعبيرًا عن هذا النداء.

لكنها كتابة تمتاز بأسلوب مختلف عن بقية الكتابات الأخرى على مستوى الدلالة والمعجم والتركيب. لذلك عادة ما تكون مغلقة على المتلقي العادي، وتحتاج إلى قارئ «متذوق» قادر على فهم دلالة الكلمة في سياق التأويل الذي يتخذه الصوفي في إنتاج الكتابة.

الباحث خالد بلقاسم في كتابه المهم «الكتابة والتصوف عند ابن عربي - وقد استعرض أغلب فصوله الشاعر محمد الغزي في مجلة نزوى العمانية»، يشير إلى هذا الإرباك الذي يُحدِثه في الكلمة جرَّاء تأويلها «فدلالة السفر على سبيل التمثيل، لا تعني في الكثير من نصوصه الرحيل والانتقال، وهو المعنى المعجمي للمفردة، وإنما يعني الإظهار والإبانة، وهو يعضد رأيه بالعودة إلى بعض الشواهد. يقول في هذا السياق: سفرت المرأة عن وجهها إذا أزالت برقعها الذي يستر وجهها، وقال الله تعالى «والصبح إذا أسفر» ومعناه إذا أظهر إلى الأبصار مبصراتها». وهكذا يسلك ابن عربي في الكثير من الكلمات طريق التأويل غير المسبوق في إعطاء الكلمة دلالة مختلفة، ولأنهم يؤمنون هو وغيره من المتصوفة بأن الكتابة تجربة ذاتية مع المطلق، تراهم يذهبون مع التأويل كل مذهب. لكن هل يعني هذا التأويل أنه أوصل فكرة الخلاص إلى غايتها عندهم؟!

لنتأمل القصة الموجودة في الرسالة القشيرية، التي أوردها خالد التوزاني في كتابه «العجيب في الكتابات الصوفية»: «مر بعض الأنبياء بحجر صغير يخرج منه الماء الكثير، فتعجب منه، فأنطقه الله معه، فقال: مذ سمعت الله تعالى يقول: «نارا وقودها الناس والحجارة».. وأنا أبكي من خوفه. قال: فدعا ذلك النبي أن يجير الله ذلك الحجر، فأوحى الله إليه أني قد أجرته من النار. فمر ذلك النبي، فلما عاد، وجد الماء يتفجر منه مثل ذلك، فعجب منه، فأنطق الله ذلك الحجر معه، فقال له: لمَ تبكي، وقد غُفر لك؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور». وهو تأمُّل له مغزاه في سياقنا هذا، وله أبعاده ودلالاته التي تكشف عن قدرة التأويل في الذهاب بالمخيّلة إلى تجديد فكرة الخلاص.

أما اللحظة الراهنة من الثقافة المعاصرة فغدت فكرة الخلاص باعتبارها التطهير بكل أبعادها وأشكال دلالاتها التي اكتسبتها عبر تراكمها التاريخي، أكثر ارتباطًا بمفهوم الكتابة نفسها، بغض النظر عن التوجه الصوفي في الكتابة الإبداعية، فكل تجربة كتابية هي نوع ما، تحمل في جوهرها معنى من معاني الخلاص مهما كان صاحبها لا يلزم نفسه بالبعد الجسدي أو الرياضي لها.

قد تكون الحركة السوريالية هي المعادل الموضوعي لحركة التصوف، كما رأى بعض المفكرين والمبدعين. لكن في تصوُّري شروط إنتاجها تختلف تمامًا عن إنتاج التصوف على الأقل في التاريخ العربي الإسلامي. وهذا له حديث آخر.