آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 8:31 ص

قاسم حداد قارة شعرية

محمد الحرز * صحيفة اليوم

«1»

حينما كلفوني الأصدقاء في مركز «إثراء» بإدارة أمسية قاسم حداد، وفي وقت محدد، لا تتجاوز فيه الأمسيةُ ستين دقيقة، مقسمة بين القصيد والحوار. كان هاجسي الأول والأخير هو استثمار الوقت المتاح للأمسية، قدر المستطاع، للإصغاء إلى الشعر.

قاسم حداد قارة شعرية فيها الكثير من الجزر والبحار والغابات والوديان والأراضي غير المكتشفة، وفيها أيضا من الكنوز الخامدة تحت براكين اللغة.

لذلك كيف يمكنك، في وقت عابر، وكلام مخطوف من سياقه أن تُقدّم قاسم الشاعر لجمهور جزء كبير منه تربّى على شعره، واستوت ذائقته على ترديد قصائده؟!

كيف يمكنك أن تفتح خريطة قارّته الشعرية، ثم تشير بإصبعك إلى منطقة محددة، وتقول: هذه هي قصيدة قاسم حداد؟

يا لها من مجازفة!! حين نترك أيدينا وحيدة على شواطئه، ولا شيء تمسكه سوى شبكة تطوّح بها، كلما أقّبلت موجة، لعل الطُعْم يجلب الكثير مما خفي من ذهبه ولآلئه.

يا لها من طريقة لاستعادة ما يمكن استعادته من زمن المعجزات، حينما كانت القصيدة تهبط كالوحي؛ فيُشفى سقم العالم وآلامه. وحينما كانت الكلمة سحرا ناطقا على الألسن.

لكنَّ الوقت يخذلك، ولا يسمح لك الزمنُ استعادة براءته الأولى، ولا تستطيع أن تفرد جناحيك كصقر في فضاء قارته مثلما تفعل مع غيره من الشعراء.

عليك أن تبتكر زمنك الخاص، كي لا تغادر قارته خاوي اليدين، عليك أن توطّن مخيلتك في كل بقعة فيها، حتى لا يظن الغريب، حين يراك، أنك غريب مثله. أخبره بأنك جئت إلى هذه القارة؛ لأن شاعرها هو الوحيد الذي أخرج الألماس من تحت البراكين دون أن يصيبه خدش أو يمسه تشويه من حرارة النار. وكأنّ الألماس مفزوع من إخراجه بهذه المرونة.

لأجل ذلك كله، ولأجل أن يحلم المرء بالتطواف في هذه القارة دون أن يتقصّف جناحاه، ودون أن تتمزق شباكه، ودون أن يفقد الطريق للمعجزات، كان عليه أن ينازع الوقتَ سلطته ويغسله بالحب؛ كي يمنح المقدمة خلودا تستحقه أمسية قاسم.

«2»

يكفي أن أضع قصيدة واحدة له في حنجرة عصفور، فيصبح شكلُ العالم ومضمونه رقصة لا تتوقف عن الدوران، وإذا ما أرادت التوقف، عالجها بأصابع المخيلة، وأنفاس اللغة.

يكفي أن أنتزع بحرا من بحوره الثلاثين، حتى أرى الشعراء يتسابقون لاختطافه من يدي، ووضعه في قصائدهم؛ كي ينزّهوا غرقاهم ويمنعوا عنهم الضجر.

يكفي.. ويكفي.. ويكفي، حتى لكأنك تجفل من هذا الاكتفاء، لأنك كلما رميتَ حجرا من شعره في البئر الوحيدة، فاضتْ مياه على حقول الكلمات، وارتوت الأفواه من نمير الحروف، وتذكرت أعشابُ اللغة حياتها في الجذور، وسقطت ثمار المعنى على الأرض، وقال العابر:

لا مجال أمامي في تقديم أمسية قاسم حداد سوى هذه الطريقة. كل الطرق استنفدتْ حصيلتها من التقديم، حتى يكاد التعريف نفسه يلجأ إلى قاسم لتعريفه، من فرط الضوء الساطع لقصيدته في مشهدنا العربي والعالمي.

نطرق بابه كي نقول له: لقد نضج الليل يا أبا طفول، وحان قطافه.