آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

عن النظام العالمي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في عام 2014 صدر كتاب «النظام العالمي» Word Order لهنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وزير خارجيته في ما بعد. وبغض النظر عن الموقع السياسي للكاتب، والاختلاف معه في كثير من مواقفه تجاه القضايا العربية، وأيضاً اختلافنا في الكثير مما ورد في الكتاب، لا بد من الإقرار بأنه تضمن قراءة تاريخية عميقة وواسعة، لتطور النظام العالمي، منذ قيام الإمبراطورية الرومانية حتى العصر الحديث.

ناقش الكتاب شكل النظام العالمي القديم في ظل الزحف الصيني على الشرق. وبالمثل ناقش دور الحضارة العربية الإسلامية، وتمدّدها جغرافياً، من بوابات الصين شرقاً، إلى الأندلس غرباً، وأشار إلى أن شعوباً كثيرة اعتنقت عقيدة الإسلام، بفعل الفتوحات الإسلامية. وتناول أيضاً الحقبة العثمانية التي شملت أجزاء واسعة من القارات القديمة الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا. وأوضح أن تمدد تلك الإمبراطوريات كان مدعوماً بعقائد دينية، كما هو الحال مع الإسلام الذي كان من ضمن المحرّضات الرئيسية للفتح العربي والتمدد العثماني.

ميّز الكاتب بين مرحلتين تاريخيتين من النظام العالمي؛ مرحلة ما قبل توقيع اتفاقية «ويستفاليا» في ألمانيا في 24 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1648، والفترة التي سبقتها، منذ بداية قيام الإمبراطوريات. والتمييز بين الفترتين جوهري ومهم للغاية؛ لأن ما كان سائداً قبل تلك الاتفاقية لم يستند إلى احترام استقلال وسيادة الدول.

لكن هذه القراءة، تجنّبت الخوض في قضايا أخرى ذات علاقة بالنظام العالمي، من ضمنها أن العلاقات بين الإمبراطوريات، والتوصل إلى اتفاقيات سلام بينها، قديمة قدم وجود تلك الإمبراطوريات، وأن اتفاقية «ويستفاليا» لم تأخذ مكانها من فراغ؛ بل هي حصيلة تراكم تاريخي، وأملتها ضرورات السلم وتحقيق الأمن في القارة الأوروبية. ولعلها كانت الوسيلة الوحيدة لإنهاء الحروب الطاحنة التي سادت القارة لعدة عقود، وتسببت في مصرع ملايين البشر.

الأمر الآخر أن العالم ظل خالياً من قيام هيئات ناظمة للعلاقات الدولية، إلى بداية القرن العشرين، بما يعني أن بقية بلدان العالم ظلت بعيدة على الصعيد العالمي، عن بيئة وروح اتفاقية «ويستفاليا» قرابة ثلاثة قرون من الزمن، بمعنى أن تأثيرها كان محدوداً حينها في بقية شعوب العالم.

اعتبر كيسنجر النظام الديمقراطي، بخلاف الأشكال السياسية الأخرى «بما فيها تلك التي استندت إلى العقائد الدينية» نظاماً جاذباً للشعوب التي وقعت تحت الهيمنة الغربية، وفي يقيني أن هذا التقرير من قِبله مجانب للواقع.

في سياق موقفه المتحيز للنظام الديمقراطي، كما ساد في الولايات المتحدة، ذكّر بحوار جرى بينه وبين الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وكان الكاتب لا يزال في مقتبل العمر. وجّه كيسنجر سؤالاً لترومان، عن أهم إنجاز حققه أثناء رئاسته، ولا يزال مبعث فخر له، فأجابه بأن بلاده لم تحقق النصر العسكري في الحرب العالمية الثانية فقط؛ بل إن البلدان التي خاضت أمريكا الحرب ضدها وتمكنت من إلحاق الهزيمة بها، تبنت النهج الديمقراطي والنظام الليبرالي عن قناعة ورضاً. واعتبر الكاتب ذلك أمراً فريداً.

واقع الأمر أن ذلك هو تقريباً ما ساد في تاريخ الشعوب، ولم يكن نصر أمريكا ونتائجه نشازاً. فالإسلام حقق ما هو أكثر من ذلك بكثير. وقد مرت قرون طويلة منذ اعتنقت شعوب عديدة الإسلام، وانتهت دولة الخلافة، وبقيت تلك الشعوب على معتقداتها التي انتقلت إليها بعد الفتح العربي. ولم يؤثر تداعي

وضعف المركز الذي انطلقت منه الدعوة، في ذلك. وحين بلغت السلطنة العثمانية أوجَ قوتها اعتنقت شعوب كثيرة في البلدان التي سيطرت عليها، الإسلام، وبقيت على حالها حتى يومنا هذا.

والأمر الأهم في سياق رفض الفرادة التي أشار إليها كيسنجر، هو أن النظام الديمقراطي لم يكن نتاجاً أمريكياً؛ بل هو في الأساس منتج أوروبي انتقل عبر «البروتستانت»، بعد فشل ثورة المتطهرين في إنجلترا، عبر هجرات واسعة إلى أمريكا الشمالية. ولم تكن ألمانيا التي أشعلت الحرب، خارج هذا السياق. فالحزب النازي وصل إلى السلطة فيها عن طريق الانتخابات، ولذلك يبدو طرح كيسنجر حول قبول أوروبا واليابان للديمقراطية، بعد الحرب العالمية الثانية، غير دقيق، ومجافٍ للواقع.

وحين يتعلق الأمر بالنظام العالمي الذي انبثق من رحم اتفاقية «ويستفاليا»، وتكوّن حديثاً بعد تأسيس عصبة الأمم، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، يجدر التذكير بأن الحربين العالميتين الأولى والثانية، هما امتداد للحروب الأوروبية، وأن توصيفهما بالعالميتين، لا يغير من واقع الأمر شيئاً.

وهناك المزيد مما ينبغي قوله حول هذا الموضوع، في مقالات قادمة، بإذن الله.