آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:07 م

هل يفضي الهوس بالقراءة إلى الإحباط؟!

محمد الحرز * صحيفة اليوم

المأخوذون بالقراءة حد الهوس، الذاهبون في دروبها حد المغامرة المهلكة، السالكون على خطى ركائبها وفرسانها: كتّابا ومفكرين وعلماء ومبدعين، الضاربون مع أحلامهم موعدا في ليلها الطويل، المتنقلون بين الكتب كالفراشات، هم أكثر الأشخاص إصابة بالإحباط واليأس، شعروا بذلك أم لم يشعروا.

أيعقل ذلك!!

هل حب القراءة يفضي بصاحبها كما أقول إلى الإحباط واليأس؟! أليس في الأمر مبالغة وتعسف؟

فهل تريد بالنهاية أيها الكاتب ذمّ القراءة من خلال ربطها بالإحباط واليأس؟ ثم ما دليلك على هذا الربط إنْ وجد؟!

مهلا عليّ أيها القارئ العزيز، رغم صحة اعتراضك ووجاهته.

سأبدأ بالافتراض التالي حتى أبيّن ما أعنيه تحديدا:

ليضع كل واحد منكم نفسه كتصور مبدئي أنه يعيش في القرن الثالث الهجري على سبيل المثال، حيث هو في مقتبل العمر، شاب موهوب ومفتول العضلات، يحب القراءة إلى الحد الذي أصبح «يكتري دكاكين الوراقين في الليل فيقرأ منها ما يستطيع قراءته»، كما كان يفعل الجاحظ تماما.

«وفي المعاجم اللغوية: يكتري، ماضيها: اكترى: اكترى الدار أي استأجرها».

ثم يحدث مع تطور شغفه بالقراءة والعلم أن يلزم العلماء، ليتعلم منهم في حلقات الدرس في المساجد والتكايا، فيسمع من هذا العالم أو ذاك بأسماء علماء كبار آخرين قاطنين في مدن أخرى، ولنفترض أنه من سكان بغداد، الذين سمع بهم وبعلمهم، قاطنين في الكوفة أو البصرة أو المدينة أو الشام. وكون شغفه بالمعرفة ليس له حد، فنراه يشدّ رحاله إلى هؤلاء، دافعه حب المعرفة والتعلم، والدافع الأهم هو شغف المغامرة كون فيها الكثير من المجهول: مجهول الطريق، مجهول العلماء، الذين سيتعلم على يديهم كونه لم يرهم، مجهول المعرفة التي يحملونها، وإن كانت هناك عناوين كبيرة ارتبطت بهم كعالم في الحديث أو الفقه أو التفاسير وهكذا.

هي بحق مغامرة، فأنت لا تكون متيقنا في الوصول إلى هدفك، ما دامت أخطار الطريق قائمة. لكن الحافز رغم هذه الأخطار يظل قائما في النفس، فقد قيل إن من أهم أسباب تطور المعرفة البشرية هي صفة الفضول الإنساني في معرفة كل شيء، خصوصا حين نتحصل على لذة اكتشاف الأشياء الغامضة، التي لم نرها سابقا ولم نسمع عنها بالمطلق.

ومَن يتصفح تاريخ معاجم الرجال وطبقاته في مختلف العلوم الدينية والعلمية في التراث الإسلامي يشاهد الكثير من قصص المغامرات المرتبطة بشغف المعرفة، قد أودت بأصحابها إلى التهلكة والموت.

يضاف إلى ذلك، عليك ألا تنسى، كما افترضنا، أنك تعيش في القرن الثالث الهجري، الذي عاش فيه علماء كبار كالبخاري ومسلم والطبري والرازي والواقدي.. إلخ، ونشطت فيه الترجمة وصُنفت العلوم وازدهرت أسواق الورق ومهنة النساخ وانتشرت المكتبات وتوسع الإسلام في أنحاء بلاد المشرق والمغرب.

لكن رغم هذا الحراك المتطور في هذا القرن، فإن حصيلتك المعرفية مقارنة بالعصر الذي نعيش فيه الآن، وفي هذه اللحظة، تكاد تكون شبه معدومة، تكاد لا تذكر على الإطلاق، فالبون شاسع بين الاثنين، وإذا صحت المقارنة هنا، لأجل التوضيح، فإن التراكم المعرفي والتطور الهائل في العلوم والمعرفة وتدفق المعلومات من كل مكان، يضع الإنسان المعاصر في مأزق حقيقي، يتأتّى من شعوره بأن حياة واحدة لا تكفي لقراءة كل ما أنجزه كاتب واحد، ناهيك عن الكتاّب في كل العصور التي عاشت قبله. فالإنسان يحتاج إلى حيوات كثيرة على أقل تقدير. لكن مثل هذا الشعور لم يكن يرد على ذهن، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، فذاكرته المعرفية وحصيلته القرائية بسيطة وليست معقدة كما هي الآن.

لذلك قلت أن التفكير بقصر حياة الإنسان إزاء الرغبة الجامحة عنده في الإحاطة، قدر الإمكان، بالمعرفة من خلال القراءة، قد أصبح يفضي إلى نوع من التراجيديا المأساوية. بالخصوص عند الذين مهووسين بالقراءة في ذاتها فقط.