آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

دلالة «الكتاب» بين قدسيته وصداقته

محمد الحرز * صحيفة اليوم

دائما أفكر بالكتب كمَن يفكر بالغرباء، هل خامرك مثل هذا الشعور؟ هل تسرب مثل هذا الإحساس إليك مثلما يتسرب الماء من ثقب في جدار؟ هل تأملت، ولو تأملا عابرا، أن تضع وثيقة تنظم العلاقة بينك وبينها، من أهم بنودها: السلام، رد التحية، الأوقات التي يبوح فيها كل منهما للآخر، مراعاة خصوصية كل طرف، عدم الاعتداء على حدود ومكان كل منهما.. إلخ؟

قد لا أجد أحدا منكم - بالخصوص مَن له تجربة حياتية مع الكتب والمكتبات - يفكر بمثل هذه الطريقة، التي فيها كثير من الخيال والشطح.

يطالعنا الموروث الأدبي بمقولة إن الكتاب صديق «وخير جليس في الزمان كتاب» إذ تفرع من هذه المقولة سلوك تربوي وضع الكتاب موضع الصداقة في نظر الكثير من القراء على مر أجيال وأجيال.

وحدد بالتالي جميع القيم، التي ترتبط به تحت مظلة الدلالات، التي تنتجها كلمة «صديق». فهل قدسية الكتاب - مهما كان نوعية الكتاب ومجالاته - جاءت من مفهوم الصداقة أم أن الصداقة جاءت نتيجة تلك القدسية؟ من الأسبق في التأثير؟

في التراث الإسلامي لا توجد دلالة تشمل بأوجه عدة معنى الكتاب غير دلالة القرآن الكريم، فهي دلالة واضحة وضوح الشمس في أغلب التفاسير والمتون التاريخية، وهناك دلالات أخرى تقترن بكلمة مضافة هي: أهل الكتاب، ليس لها ارتباط بموضوعنا في هذه الفقرة بالخصوص.

الكتاب وحي منزل مقدس، وهذا يعني فيما يعنيه سريان القداسة على كل مَن يقترب منه، أكان حافظا لآياته، أو عارفا لتعاليمه وأحكامه، أو مطبقا لتشريعاته، وهو ما نراه مطبقا في مقولة أشرف المعارف قربا من الكتاب ما ارتبط به تفسيرا وحديثا وأصولا، وكلما بعدت المعارف عنه، كمعرفة أحوال البشر في التاريخ ومعرفة الأدب والأدباء أصبحت أدنى منزلة.

لكن رغم ذلك، لا توجد دلالة قطعية، على أن ما نعيشه في ثقافتنا المعاصرة من مظاهر الارتباط بالكتاب - والهالة الكبيرة حوله كأنه يمثل خشبة الخلاص لكل مظاهر الجهل والتخلف الذي يعيشه العالم العربي - له امتداد دلالي يعود به إلى قدسية الكتاب؟

قد يؤكد البعض انتفاء هذه العودة، مستشهدين بقرون من التاريخ الإسلامي لم يحظ فيها الكتاب، وبالتالي المعرفة على أشكالها، بهذه الحظوة التي نشهدها.

رأيي المتواضع أن الحضارة المعاصرة خلقت شروطا للمعرفة لم تنفك من التطور السريع، الذي يصعب على عقل المرء أن يستوعب هذه السرعة وبالتالي يتعرف عليها فضلا عن فهمها، وإذا أدركنا أيضا أن الكتاب يمثل رمز المعرفة في شكلها الحديث، هالنا النتيجة التراجيدية للإنسان أمام الطوفان الهادر للمعرفة، وكأنه يستعير من مفهوم القداسة دلالتها المتصلة بالكتاب، ثم يضفي عليها دلالة حديثة متصلة بمفهوم الصداقة. امتزاج الدلالتين وسيرورتهما في العملية القرائية كرست في وجه من الوجوه انعدام النقد كارتباط عضوي، وثيق الصلة بإنتاج المعارف في العالم.

انفكاك الدلالتين يحتاج كما صدرنا في بداية المقال إلى الشطح والخيال في العلاقة بينك وبين الكتاب، فمثلا أنا من خلال تجربتي، لا أشعر بهذه الصداقة التي يحتفي بها الجميع، أشعر بأن ثمة غرباء اقتحموا علي بيتي، خصوصيتي، وحولوني إلى شخص آخر، أكاد أجزم لو كان لي أن أرحل في آلة الزمن، وأعود بضع سنين للوراء، لأنكر أفكاري ذاك الذي كنته قبل بضع سنين، فما بالك لو رجعت إلى أكثر من حياتي.

بهذا المعنى للغرباء هو ما يشد تفكيري نحو الكتب في هذه اللحظة، ربما في لحظات سابقة لم أكن كذلك.

أنظر إلى الكتب مصفوفة على الرفوف أمامي وأقول في نفسي:

كيف لم أنتبه إلى أنني وضعت في صف واحد من الكتب أصحابها غرباء عن بعضهم البعض، بل بين البعض هم أعداء؟

إنه شعور غريب بمجرد ما أفكر بأن هؤلاء يوما ما سيحاكمونني على انتهاكي لهم، ليس في أفكارهم، بل في خصوصية قربهم وبعدهم عن الآخرين.