فلسفة الثواب في الأديان
يقول تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 148].
لا يكفي أن يعرف الإنسان الخير والسّلوك الإيجابي لكي يقوم به، بل يحتاج إلى محفّزات تشجعه على ذلك.
عدا قلّة قليلة من الكمّل من أبناء البشر الذين ينطلقون لعمل الخير من إدراكهم للحسن والقبح بعقولهم وفطرتهم، دون حاجة لمحفّزات، كما ورد عن الإمام علي وهو يتحدّث عن إقباله على عبادة الله تعالى: «مَا عَبَدْتُكَ خَوْفًا مِنْ نَارِكَ، وَلاَ طَمَعًا فِي جَنَّتِكَ، وَلَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ» [1] . لكنّ الغالبية العظمى من البشر يحتاجون إلى المحفّزات.
ولهذه الطبيعة البشرية أصبح التحفيز على الخير والسّلوك الإيجابي عنصرًا تربويًّا أساسًا في ثقافة المجتمعات الإنسانية. تستخدمه العائلة في تربية الأبناء، والمؤسّسات التعليمية في التعامل مع الطلاب، والمجتمعات المتحضّرة في مجال تشجيع الكفاءات والعمل التطوعي، وتأخذ به مؤسّسات الدولة والشّركات لرفع مستوى أداء موظفيها، ومستوى التزام المواطنين بالأنظمة والقوانين.
وحتى على الصّعيد العالمي فإنّ صدور البيانات والتقارير والمؤشّرات من المؤسّسات الدولية حول تقويم أوضاع الدول والمجتمعات تأتي ضمن هذا السّياق التحفيزي، وتخلق تنافسًا في تحقيق الإنجازات الإيجابية عالميًّا.
وهذا ما سبقت إليه الأديان السّماوية حين تحدّثت عن الجزاء والثواب الإلهي للمؤمنين والصّالحين والمحسنين من أبناء البشر، وذلك لتنمية نوازع الخير في نفس الإنسان، ودفعه للسّلوك الإيجابي، والقيام بالأعمال الصّالحة.
وتعبير الثواب فيه إيحاء كبير، فهو مشتقٌّ لغةً من ثاب يثوب، ويعني الرجوع بعد الذّهاب، وفلان «ثاب» أي عاد ورجع إلى موضعه، ويقال للمنزل «مثابة»؛ لأنّ أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه، أي يعودون.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125].
وبهذا الاعتبار فإنّ الثواب يعني عود عمل الخير إلى صاحبه مكسبًا وجزاءً.
طبقًا لما تقرّره الآية الكريمة: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: 46].
وآيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وروايات أئمة أهل البيت مليئة بوعود الثواب الإلهي، في مقابل أيّ عمل خير، وأيّ سلوك إيجابي يقوم به الإنسان.
وهي وعود قطعية لا شك في تحقّقها، حينما تتحقّق شروطها، يقول تعالى: ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الحج: 47].
ويقول تعالى: ﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ [القصص: 61].
ويقول تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
والثواب الإلهي على عمل الخير يمتدّ على مساحة الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 148].
ويتمثّل ثواب الله دنيويًّا في بعدين:
بُعدٌ مادّي بأن ييسرّ الله تعالى للإنسان أمور حياته، ويوسّع عليه رزقه، ويمنحه الصّحة والعافية، ويدفع عنه الأسواء، عند قيامه بأعمال الخير، كما تفيد نصوص دينية كثيرة.
كقول رسول الله ﷺ: «دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ» [2] .
وعنه ﷺ: «صلةُ الرَّحمِ، وحُسنُ الخُلُقِ، وحُسنُ الجِوارِ، يُعمِّرانِ الدِّيارَ، ويَزيدانِ في الأعمارِ» [3] .
وورد عن الإمام علي : «صَنَائِعُ اَلْمَعْرُوفِ تُدِرُّ اَلنَّعْمَاءَ، وَتَدْفَعُ مَوَاقِعَ اَلْبَلاَءِ» [4] .
وهناك بُعدٌ معنوي، وهو شعور الإنسان بالرّضا النفسي واللّذة الروحية، وتمتّعه بالذكر الحسن والسّمعة الطيّبة، ومحبّة الناس واحترامهم.
كما أنّ ثواب الله في الآخرة أيضًا على نوعين من الأجر والجزاء: مادّي ومعنوي.
ويتجسّد الثواب الأخروي المادّي فيما تصفه الآيات والأحاديث من نعيم الجنة، وما أعدّ الله تعالى فيها للصالحين المحسنين، مما يصعب على البشر إدراك حقيقته؛ لاختلاف معادلات وقوانين العالمين الدنيا والآخرة.
عن سهل بن سعد السّاعدي قال: شَهِدْتُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ مَجْلِسًا وَصَفَ فيه الجَنَّةَ حتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قالَ ﷺ في آخِرِ حَديثِهِ: «فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ» [5] .
يقول تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17].
ويقول تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴿70﴾ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿71﴾ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: 70-72].
ويقول بعض العلماء إنّ وصف القرآن والأحاديث لنعيم الجنة هو وصف تقريبي يتناسب مع إدراكات الإنسان الحسّية في هذه الحياة، كما تصف للطفل اللّذة الجنسية مثلًا بأنها مثل السّكر والحلاوة، وذلك مقدار ما يصل إدراكه.
أما الثواب المعنوي في الآخرة فيتمثل في القرب من الله ونيل رضوانه، ومجاورة الأنبياء والأئمة والصّالحين. وهو أعلى في نفس المؤمن من كلّ نعيم الجنة.
يقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].
ودرجات الثواب تتفاوت على أساس المعايير التالية:
1/ درجة الإخلاص في العمل.
ورد عن الإمام علي : «طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ عَمَلَهُ وَعِلْمَهُ» [6] .
وعنه : «فِي إخْلاصِ الأعمالِ تَنافُسُ أولِي النُّهى والألْبابِ» [7] .
2/ مقدار المشقّة والجهد في العمل.
ورد عن الإمام علي : «ثَوَابُ اَلْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ اَلْمَشَقَّةِ فِيهِ» [8] .
3/ آثار العمل وانعكاساته على نفس الإنسان وعلى من حوله، وعلى المدى التاريخي.
ورد عن رسول الله ﷺ: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ» [9] .
ومن لطف الله تعالى أنه يعطي بمقدار الثواب الموعود به على أيّ عمل خير، وإن لم يكن الوعد بالثواب قد صدر حقيقة من الله تعالى.
ورد عن الإمام محمد الباقر : «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اَللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ اَلْعَمَلَ اِلْتِمَاسَ ذَلِكَ اَلثَّوَابِ، أُوتِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اَلْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَهُ» [10] .
علينا أن نثق بثواب الله، ونغتنم فرصة الحياة في المزيد من أعمال الخير.
وعلينا أن نشجّع ونحفّز أبناءنا ومن حولنا على أعمال الخير بمختلف الأساليب.