الغربة غربة زمن!
الغربة كربة، حزنٌ وغمّ يطبق بالنفس. الأشدّ نكدًا على الحرّ هي غربة الزمان، حين لا يعود شيء يشبه شيئًا. غربة مثل الزائدة الدوديَّة، تؤلم، لابد من إزالتها، ولدٌ عاق، وزنٌ زائد عن الحاجة، يجب أن تتخلص منه، لكن أنَّى ذلك يكون؟
عندي أمنية مستحيلة، لعلَّكم تقولون عنها طفوليَّة أو صبيانيَّة، لكن هي في أعماقِ قلوبكم موجودة أيضًا: أن يعود الزمانُ كما نشتهي، بناسه وأهله، نعود فيه من غربتنا، وإن لمدةٍ قصيرة!
خطب الإمامُ عليّ ذاتَ يوم، وكان في غربةٍ زمانيَّة كالحة بعد أن ذهب أصحابه الخلَّص، حيث غيَّبهم التراب ولم تغب ذكرياتهم عن عينيه وقلبه. صار يسأل عنهم واحدًا واحدًا: أين عمَّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم؟ صار غريبًا في زمانه بعدهم!
غربة يختفي فيها الأحباب، تظهر فيها عاداتٌ وأنماطٌ من العيش والحياة سخيفة ومملة. فتن وغياهب لا تنتمي لها ولا تريد أن تكون جزءًا منها. أقزام يصيرون عمالقة، في طول مترين أو ثلاثة، وعمالقة يصيرون أقزامًا يطأهم النَّاس بالأقدام!
طوبى للغرباء! إذا فسدَ النَّاس صلحوا، إذا تحول من حولهم إلى ذئابٍ سلمَ الناس من شرورهم. إذا كَذَب الناس صدقوا، إذا فسق أهل زمانهم عفّوا. باختصار، إذا نزعَ الناس لباس الفضيلة لم ينزعوا لباسهم، ولم يخجلوا منه. هم - أصلًا - لا يعرفون معنى كلمة ”رذيلة“.
قال رسول الله «صلى الله عليهِ وآله» ذاتَ يوم وعنده جماعة من أصحابه: ”اللهم لقني إخواني“ مرتين فقال من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسولَ الله؟ فقال: لا، إنكم أصحابي وإخواني قومٌ في آخرِ الزمان آمنوا ولم يروني، لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن يخرجهم من أصلابِ آبائهم وأرحامِ أمهاتهم، لأحدهم أشدّ بقية على دينه من خرطِ القتاد في الليلةِ الظلماء، أو كالقابضِ على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كلِّ فتنةٍ غبراء مظلمة.
”الموت ملح الحياة“ ثلاثُ كلمات، عميقة المعنى، كانت تقولها أميّ - رحمَ الله كلَّ الأمهات - وكأنَّها تقول: في بعض الموت حلاوة، عودة من الغربة وتحرر من زمنٍ لا راحةَ فيه، ولأن الراحة لم تخلق لأحد فلا تبحثوا عمَّا ليس في الوجود. قال الإمام الصادق - لأصحابه -: لا تتمنوا المستحيل!، قالوا: ومن يتمنى المستحيل؟! فقال: أنتم، ألستم تمنون الراحةَ في الدنيا؟ قالوا: بلى، فقال: الراحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة!