قرارات سليمة منذ الصّغر
تمضي بنا السنين ونصل لمرحلة من النضج نتمنى على أثرها أنْ نعود للخلف حتى نُقيّم أخطاءنا، ونبتعد مسافات شاسعة عن عيوبنا، نجلد أنفسنا تأنيبًا، وأحيانًا نُربت فوق أكتافنا اعتذارًا لأننا وضعنا لأنفسنا أعذارا جيدة.
نهمس لقلوبنا وعقولنا لا تثريب عليكم إنّكم في مقتبل حياتكم. لن تنالوا القدر الكافي من التّوجيه والإرشاد ولم يسعفكم الحظ إلا بوقت متأخر، وقد سلكتم طريق الهروب مرات عديدة.
وعندما أشرتُ لمرحلة النضج فقد قصدتُ بها المرحلة الفخمة حيث ينتهي بك المقام للجلوس على العرش الملكي في مقتبل خريف العمر الأزهر الذي كلف الوصول إليه الكثير من الجهد وقد ذكر ذلك القرآن الكريم، يقول الحق تعالى:
﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ «الأحقاف: 15»
إذ المقصود من ﴿بلغ أشدّه﴾ أي اكتملت قواه البدنيّة والعقليّة واكتسب تجارب عديدة في الحياة، شارف على الأربعين سنة فاكتملت بذلك حكمته التي تقتضي تغيير مساره العقلي للوجهة الصحيحة.
من جهة أخرى يمتلك البعض الكثير من الأفكار والمفاهيم الصحيحة التي تستعجل دخوله مرحلة النضج وهو في سنّ صغيرة ويُعدّ ذلك هبةً من الله وتكريما له على أقرانه فنراه يَسُوس نفسه، ويقود من يكبره سنّا وهو ما زال في مقتبل عمره، ينعم باتخاذ قرارات سليمة منذ صغره ويعود ذلك لعدة أسباب حصرتُها في الآتي:
مما لاشك فيه أنّ من يظهر بعقل أكبر من عمره قد أُسندت إليهِ مهاما كبرى من صغره وتفتحتْ عيناه على العمل الجاد لا الكسل والتراخي والاعتماد على الوالدين في إنجاز فروضه.
نراه منذ صغره زاول عملَ الكهربائي والسّبّاك وألمّ باحتياجات أسرته وعلى الرغم من ذلك سار في تحقيق أهدافه الرئيسية.
درجنا على صحة القول «الملوك هم حُكّام الناس والحكماء هم حُكّام الملوك»
لذلك نؤمن بأن عقل الإنسان ابن له يتعهده منذ الصغر بالرعاية ليظفر بحمايته عند كبره والحكمة نور يشعّ في الطريق والحكيم لا يلدغ من جُحر واحد مرتين، كما تقتضي الحكمة وضع الكلمة في موازينها اللائقة قبل خروجها؛ لذلك نرى من علامات النضج المبكر قلة الكلام والسمت الحسن والوقار المُلفت للانتباه.
أجمل صفات الإنسان على الإطلاق صفة الحِلم لأنها تُبعد الإنسان عن أقبح الطرق وأكثرها شراسة وهو الغضب «النار المُستعرة التي تحرق كلّ من تقابل في طريقها» وهي من البشارات القرآنية التي وردت في مدح الناشئة، يقول الله تعالى:
﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ «سورة الصافات 101».
وضبط النفس حجاب يقي صاحبه من مُرديات القول ويطبعه على كريم السجايا منذ صغره، فلا يرفع صوتا ولا يدا في حواره مع الآخرين.
يقول الله تعالى: ﴿وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾.
قرأتُها كثيرًا، وأعرف أنها تدعو للاعتدال في كلّ شيء ليس في الطعام والشراب فحسب وإنما في مواطن كثيرة في الحياة.
لا تسرف تفكيرًا في المستقبل على حساب اللحظة الجميلة.
لا تسرف في الألم فالمواقف الوعِرة يمكن اجتيازها، كما أنّ القصيدة الباكية تضر بالقلوب أحيانًا.
والتبذير صفة شيطانية ولكنها محمودة في طلب العلم مثلا، هي غير مطلوبة في العبادات ولكنها باب جميل لأداء النوافل التي تجعلك تناجي ربّك وتستشعر وجوده في كلّ خطوة وفي كلّ موقف وكل حكم على الآخر.
عَنْ أبِي عبدِ اللهِ جابرِ بنِ سَمُرةَ قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ الصَّلواتِ، فكانَتْ صَلاتُه قَصْدًا، وخُطْبتُه قَصْدًا» رَواه مُسلِم.
«قَصْدًا» أيْ: بَيْنَ الطُّولِ والقِصَرِ.
فالاعتدال لجام ذهبي يرتديه الناشئ العاقل يضبط سيره، ويجمح كَبَواته.
وتأتي نتيجة حتمية لمجاهدة النفس وتغليب قوة العقل بالمنطق ثم الوصول لأعلى المراتب العلمية والعملية.
وكم من ناشئ أغفل نصح والديه باتخاذ قرار في غير محله وظلّ يشكو تبعات ذلك القرار طوال عمره.
قم بواجباتك على أكمل وجه ولا تجعل للراحة النصيب الأكبر في حياتك العلمية، وما دمت تقوم بما هو مفروض عليك سوف يمكّنك الله تعالى في أرضك ويثبّت قدميك على الصلاح والتقوى وسوف تصل للمرحلة الفخمة بوقت مبكر وبحلّة جميلة، فاخرة
يقول ابن عباس: «من لم يجلس في الصغر حيث يكره لم يجلس في الكبر حيث يُحبّ»