آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

الحاضر كالماء ونحن غيابه

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هذه كلمتي التأبينية في الصديق الأديب الراحل محمد الغزال:

وأنا متوجه إلى هذه المنصة، كنت أجر خلفي سؤالا ثقيلا، لم أجد في قاموس كلماتي أيَّا من الألفاظ والمعاني يمكنها أن تصوغه بالطريقة التي تثور في داخلي كالبركان. لكنّ ثقله على كتفيَّ يجبرني على صياغته:

كيف باستطاعتنا أن نسوق الكلام بين أيدينا بسلاسة ومرونة حين يتعلق الأمر بالذين نحبهم وقد فقدناهم للتّو؟!

فإذا كانت المسافة بين ممن أحببناهم وبين فجيعة فقدهم مثلما هي المسافة بين النخلة وظلها، بين الأبواب وعتباتها، بين أصبع وآخر، بين الوجوه وانعكاساتها أمام المرايا، بين العين ونظرتها. فإننا لا نشعر بفراغ أماكنهم في قلوبنا، ولا بتلاشي صورهم في أعيننا؛ حتى إن الدموع التي تنزل من مآقينا، لا تصدق ما يقال لها إنها دموع الحزن. وكأن العين تخادع نفسها بتلك الدموع.

ألستم تدركون معي هذه الحقيقة، وتشعرون بها في نفوسكم؟!

أليس الفقيد هو الحاضر كالماء بيننا ونحن غيابه حينما تضيع البوصلة، ولا نعرف أين تتجه غيومه وسحائبه؟

أليست حياته التي عاشها بين الناس هي كتاب ثمين لم نزل نقرأ صفحاته الأولى، وكأن موته يتعثر بين حروفها وأسطرها كلما حاول أن يصل إلى آخر الصفحات؟

لكنْ - يا للحسرة - مهما حاولنا، لا يمكن أن نضع الوقت في قفص، ثم نقفل عليه؛ حتى لا يهرب. سيتوجب عليه أن يمضي بنا إلى آخر العمر، وكلما تقدمنا خطوة إلى الأمام في هذه الحياة، سيكون حنيننا واشتياقنا إلى آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا الذين اختطفهم الموت من بين أيدينا، أكثر قوة، وأكثر صلابة وأكثر أسفا أيضا.

ولكن على ماذا نتأسف؟!

على أننا لم نكن نطيل المكوث قربهم حتى نستطيع أن نحفظ الطريقة التي يتحدثون بها، والطريقة التي ينظرون بها، والطريقة التي يحبون بها ويكرهون، وحتى نعرف أيضا آلامهم وآمالهم، عدا ذلك لن يكون بوسعنا أن نقول لهم: ارتاحوا في قبوركم، نحن بخير؛ لأننا ما زلنا نتنفس هواءكم الذي تركتموه لنا من ذكرياتكم.

نتأسف على ما أهملناه من تجاربهم وقصصهم في الحياة، ولم نستطع توثيقها في عقولنا قبل كراساتنا.

نتأسف على لحظات لم نضع فيها رؤوسنا في أحضانهم كي نتدثر بحنان سيذهب برائحته دون رجعة.

نتأسف على كلمات سقطت فجأة ولم نعد نستعملها في لهجاتنا اليومية المتعددة: «شلونك يبّه» «شلونج يمّه».

يا له من أسف يهدّ جبال القلب، ويحيلها رمادا.

يا لها من فجيعة تكسر شيئا في داخلنا اسمه «الطمأنينة» حين نلتفت للوراء وننادي على الذاهب بأعلى أصواتنا أن يعود. لكنه لا يعود.

فقط، وحدهم اللائذون بصمتهم أمام موتك يا صديقي قادرون على ابتكار حياة جديدة لك بين الناس، وحدهم مَن يصغي إلى عمق الحياة في رحم الموت.

فقط وحدهم أولئك الذين يلوذون بالصمت حين يفقدون عزيزا عليهم، وينعزلون في بيوته كأنهم نساك ليسوا عاجزين عن الكلام إطلاقا، وليسوا في غيبوبة من فرط آلام الفقد.

لكنهم مشغولون باكتشاف غابة الذكريات، التي خلفها الفقيد في دواخلهم، ولفرط انشغالهم لم يعد باستطاعتهم أن يتراجعوا.

مشغولون باكتشاف حياة الذي أحبوه، وعاشوا الفرح معه والحزن أيضا.

مشغولون باسترجاع الأماكن: المنزل، المسجد، الحسينية، المحافل والمناسبات، المدن التي زارها، بيوت الأصدقاء والمقربين، تلك الأماكن التي ملأها بصخبه وشيدها بأنفاسه ورسم على جدرانها ضحكاته وكتب على ترابها أدبه وأهدى أبوابها لمساته، وفتح نوافذها لثقافته.

مشغولون بصوته الهادر الذي يتسلل إلى قلب مستمعيه قبل أن يصل إلى أذهانهم، وكأن الله أودع فيه صوت الملائكة، الذين نراهم في أحلامنا.

مشغولون بحكاياته التي لا تنتهي، وقصصه المشوقة، وبأسلوبه الأخاذ في القص والحكي.