آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:34 ص

انتقاد أم نقد.. حدث وحديث ”13“

عبد الله أمان

يعرِّف الإِنتقاد السلبي المُتطرف نفسه، ببساطة: بأَنَّه قِناع فاضح مُتنكِّر، لوَاقع، ومُناخ نَفسيين مُتأَجِّجين مُضطربين مُختقِنين، يصعَب على سَوية وِجدان الشخص المُتحامِل المُجحف، المُتقوقع في رَدهة انتقاده الجائرة، إِخفاء مِشرَط تشريح، وإِقصاء مِبضَع تجريج انتقاده الحادَّين، والتعايش المُسالم معها، لبُرهة خاطفة مِن الزمن؛ لأَسباب داخلية نَفسية مُتناقضة شتى: حَسدًا مَن نفسه؛ أَوكُرهًا لقرينه، أو حَماقةً لاستعلائه، وإِرضاءٍ مُهادِن لنوبتي سَخطه وغَيه؛ أَو تمنٍ داخليٍ وشيكٍ لزوال نِعمة، أَو وَجاهة الشخص المُستهجَن المُنتقَد... وحَمله، بنَذالة وسَفالة، على فُوَّهة بُركانٍ قاذفةٍ ضاربةٍ، بأّساليب مُلتوية مُتصنَّعة؛ ورَميه، جُملة وتَفصيلًا، بأَنماطٍ مُحرِقة مِن شَررٍ لفظية، وشَذرٍ صِياغية، مُقزِّزة مِنفِّرة؛ تَحكي، وتنهي، وتفضي إلى شِباك أَرذل حال وجدانٍ سَوداويٍ حَاضنٍ؛ وتعرِّي، بخيبة مَآل، إِلى بوابة مَوقفٍ مُتسترٍ سَلبيٍ مِاثلٍ، قلبًا وقالبًا!… أمَّا نزعة ’النقد" الحاضرة الماطرة، بشاخص دَفتيها المتطرفتين، فلا تكاد تَخلو مِن حَفنات مِن تِفل الشوائب النتنة؛ أَو تَنجو مِن ثُمالةِ شيءٍ مِن بقايا خُشاش مِن حُثالات الرواسب العالقة في قَعر وِجدان، ونِياط قلب الناقد السلبي، المُتربص الدوائر بقرينه؛ ولذا يُشاع ويُذاع، في أوساط وصُفوف المجتمع الناقد، أَن النقد المُعلن على شقين: أحدهما هَادم عَادم، الآخر بَنَّاء عَمَّار... فالنقد البناء، هو بيت القصيد النضيد، وضالة المؤمن السعيد المُستهدفة؛ لجَودة نَقائها، وأَصَالة صَفائها، ودَماتة مَنبعها، وخُلوها - بِداية وخَاتمة - مِن مُرديات الزيغ، ومَزالق الانحراف؛ وبَراءتها مِن مُجانفة الصدق والصراحة؛ ومُباعدتها مِن قَفر الشفافية والوضوح؛ وقَطيعتها الماثلة البتة مِن انتقاص مِن لُباب الأريحية المَحضة، وانحسارٍ لنعيم أَرائك الارتياح المَترَفة؛ والعثور عليها عِيانًا، مِن علامات جَوهر الحيوية النابضة؛ وجِدية المُبتغى الهاديين، بأَسمى جودة المَقصد، وأَنقى نَمير المورد؛ ومُقاربتها الأَصيلة لنَبالة وأَصَالة الطرح الجريء؛ ومُزاوجتها الصادقة لرُقي التناول السديد؛ ومُلازمتها المحسوسة لاستقامة النهج المَشهود؛ لإِذكاء شرف التوجُّه الذاتي المحمود، ظاهرًا وباطنًا!

وتطبيقًا لما تَعلمته ومَارسته عمليًا مِن أَجود وأَصدق فَنيات النقد البناء، عندما كُنت طالبًا، في مْقتبل العمر، بمعهد إعداد المعلمين للمرحلة الابتدائية، بمدينة الدمام، قبل قُرابة خمسة عُقود مُنصرمة، مِن الزمن؛ حَيت كُنا مجموعة مِن الدارسين المتدربين أثناء انخراطنا في أَداء ”التربية العملية“ كَمتطلب أساس في تدريبنا وإِعدادنا المهني؛ لندخل جميعًا على أحد الزملاء المُتدربين في غرفة الصف، في زيارة صَفية تقيمية، مُرتَّبة ومْعدَّة، بمعِية الأُستاذ المُدرب المُشرف أتناء الزيارة ”التطبيقية التربوية“ ونحضرها مِن أَولها إِلى آخرها… وبعدها نجلس مُباشرة في حلقة درس شَائقة، ومُناقشة شَاملة؛ ونشترك جميعُا، في مَحفل نَقد تربوي بناء، مُدونة مُلاحظات ونتائج الزيارة الصفية، المُعدَّة مُسبَّقًا، عند كل فردٍ مِن المُقيمين، بنقاط القوة والضعف، التي أَعدوها أثناء حضور حصة التقييم الأَدائي للمُتدرب توًا، بما فيهم المشرف التربري، بنهاية الحصة الدراسية المُشاهدَة… والشاهدُ المُتَّبع في جلسة النقد البناء، هو البدء بتقديم، وتمرير، وتعزيز الملاحظات والنقاط الإِيجابية أولًا؛ ليتنفس مُلقي الدرس - المُحتفَى به - المتدرب نفسه الصعداء، قبل السرد والاستماع لقائمة نقاط الضعف المُلاحظة السلبية، المُدونَة لدى كُل متدربٍ مِن المقيمين الحَاضرين، على انفراد…!

والجدِيرُ بمَقام الذكر؛ والحرِي بمَوقف الإِشادة، هو تعزيز، وتمكين، وتحبيب أُسلوب ومَنهج ”أَتيكيت“ التهيئة الوجدانية؛ لتقبُّل ”جُرعات دَوائية“ مِن النقد الهادف البناء، بيُسر وسُهولة، واستحسانها بطيب خاطر، دون مُزايدة أو مُكابرة، أَو أَدنى تَجريح، يجب أَنْ ينال مَسارًا سَويًا آمِنًا، ويحوز على قسطٍ وافرٍ ظافرٍ مِن الرضا الذاتي؛ ويُقايَض طوعًا بالاستجابة والقَبول؛ ليُربَّي، ويَسمُو، ويَصقِل وِجدان وفِكر المُتلقي المُستهدَف؛ تهيئة واستعدادًا ذاتيين للقبول الواعي، إِلى تَأسيس وتَسييس ذائقة النقد البناء، وكأَنهما جزءًا مُكملًا لمظهر المتدرب الواعد، أو إِهداءً رافِدًا مُتممًا لبناء شخصيته المأمولة، وإِعدادًا متينًا لصقل رِسالته التربوية المّنتطرة، على أكمل وجه…!

هذا، وما ينطبق على مَوقف أَهلية قبول النقد الترميمي البنائي في مَيدان التربية العملية، لإِعداد المعلمين، ينطبق، بكَفاءة وجَدارة، على طَيفٍ واسعٍ مِن مَواقف حياتنا اليومية المُعاشة… كتعاملنا المَرحلي المُبرمج المُخطط، لقبول بوارق النقد البناء، بسعة صَبر، ورحابة صَدر؛ لإِحداث تغيير سلوكي مَحمود مَأمول؛ أَو تعديل مَنهجي ايجابي مَلحوظ، في أَنماط سُلوكيات أَنجالنا، ورَجَاحة عُقول أحفادنا… لابُد أَنْ يُوضع ويُؤطر ظِله النوعي؛ وتُحكم إعداد قامته المُقننة - بأَبعادهما التلاثية - الراهنة، داخل أسوار مَحمية دَوائر حَاضنة، وسط إِطار النقد الصريح المريح، قَولً وفَعلٍا ومَسلكًا!… مِصداقًا لبوحٍ صادحٍ مِن آي الذكرِ الحكيم: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقََوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنِْفُسِهِم».

ومُرورًا مُتأَملًا مْتئدًا بموجات الانفتاح المُتلاطِمة العاتِية، في أَسنِمة، ومَراقي، ومُبتكرات مُمنهجة، في مَيادين تِرسانات عالم الصناعة المتجددة، وآفاق مَشهودَة في ”تحور وتطور“ التجارة المُيسرة؛ ومِثلهما في سُوح اتساع تسهيلات السياحة الدولية؛ ومُستجدات الملاحة الجوية والبحرية العالميتين القائمتين، في أوج عَصر مَدد العولمة الذهبي؛ تَتضاعَف وتَتعاظَم استضافة، وقبول، وحُضور مُنتديات النقد المنهجي بذَائقة العولمة العصرية، وتَوطينها بموطئ قدمٍ راسخةٍ؛ وتَمكينها بهَوى شَبكة مَناظير الاستشراف الفاحصة، مُستَحدِثة، بحريةٍ طليقةٍ، آفاقًا واعدةً بمسقبلٍ مُشرقٍ زَاهرٍ، يحظى ويندى بإِعداد وإسناد عْهودٍ جَديدةٍ مُمهدةٍ، مِن أخوات وليدات شَقيقات حِسَان، لامتداد دَوحة العولمة الضافية المِعطاء؛ لتصبح أكثر انتشارٍ، بفروعها المُتعالية الظليلة؛ وتفدو واعدة يانعة، بأَكمام ثمارها الدانية النضرة، وجَني رَيع نِتاجها المُثمر الندي، لُقمات سَائغة شَهية؛ لتعزِيز وتعظِيم هِمم ومَساعي فُلول أَجيال المستقبل… «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُوْلُهُ والمُؤمِنُون…».