حكايا جارحة
”بعض الحكايا موجعة“
عندما اتخذ قراره بالانسحاب من الحياة العامة والاختفاء في كهف الظلام، لم يستشر أحدًا، ولم يرغب بعد ذلك بسماع أي صوت يدعوه لمغادرته.
ثم ألبس هروبه لباس الدين، فأخذ يحفظ القرآن، وقصائد الشعر العربي، وخطب نهج البلاغة، وبعض الأدعية الطوال.
مرّ عامان منذ أن أصيب في عينيه إثر انفجار إرهابي حدث في السوق الشعبي، حين كان متوجهًا لشراء العشاء لأصدقائه المجتمعين في منزله للمذاكرة والاستعداد للامتحانات، فمزقت قطع الزجاج المتطاير شبكية العين، وأدى تأخر إسعافه لانطفاء النور فيهما.
وقد جدد الرفض بالخروج يوم أن تلقى اتصالًا هاتفيًا من صديقه سعيد العائد من بريطانيا، يدعوه للخروج والعشاء معه، ولم يستجب لإصراره رغم حبه له وشوقه لرؤيته حتى عندما أقسم عليه برأس أمه الغالية.
وعندما زاره سعيد في بيته، واقتحم عليه عزلته، وألحّ عليه بالطلب، قبلَ الدعوة بشرط ألا يطيل المكث بعد العشاء، فبمجرد أن ينتهي من الأكل يغادر المطعم.
قبلَ سعيد الشرط وهو يعلم أن هذا ما سيحصل، ولم يترك له فرصة للتراجع فأمسك بيده وأخرجه من غرفته أمام دهشة أفراد أسرته.
خرجا يمشيان وكأنهما عاشقان يستمتعان بالأجواء الربيعية، وصوت الناي القادم تحمله النسمات العليلة يداعب خلايا الذاكرة عن أيام الشباب وما تحمل من قصص وحكايا.
فسعيد وحيدر يمتلكان صوتين جميلين كأنهما من مزامير داوود، وكان «كريم» زميلهما الآخر يجيد العزف على الناي، فكانت أمسياتهم تسابق في الأداء الصوتي بين موّال وأبوذية ودرامي، وقصص جميلات الجامعة تتردد في اجتماعاتهم.
كريم زميل دراسة تعرف عليهما في جامعة بغداد، وقد هاجر مع أسرته إلى هولندا وانقطعت أخباره إلا بعض الاتصالات البعيدة، إما سعيد فهو أقرب الأصدقاء لقلب حيدر، فهو جاره ورفيق الدراسة حتى المرحلة الجامعية، ولم يفترقا إلا بعد أن سافر سعيد لدراسة الطب في الخارج.
تحوّل سعيد إلى عين لحيدر يرى بها كل ما حوله، فقد بدأ بوصف الطريق ثم المارة والأشجار بل حتى السماء وما يطير فيها، إلى أن وصلا للمطعم وتوقفا على بابه.
سأل حيدر: لماذا توقفنا؟
أجاب سعيد: المكان مزدحم، والطاولات ممتلئة بالناس، وهناك غيرنا ينتظرون دورهم أيضًا.
استدار حيدر يريد المغادرة، وكأنه أراد حجةً ليعود لكهفه، لكنّ عامل المطعم سبقه ودعاهم للدخول فهناك طالوة محجوزة باسم سعيد.
ضغط سعيد على يد حيدر وأخذ يمشي به بهدوء كي لا يصطدم بطاولة أو كرسي حتى وصلا للطاولة المقصودة.
أخذ سعيد يقرأ قائمة الطعام، تمن باقلا، سمك مسكوف، دولمة، تشريب، قيمة بالتمّن، كباب، بامية، تمّن جزر، ومع كل اسم يردد حيدر الله، ثم أكمل سعيد: تمّن ماش، كباب ملوكي، داوود باشا، وحيدر لا يعلق، وفجأة أمسك بيد سعيد قاطعًا عليه قراءته وقال: سعيد.. ثم أخذ نفسيًا عميقًا وأكمل همسًا.. إنها غادة أليس كذلك؟
صمت سعيد وهو يداري قلقه وخوفه على مشاعر صديقه، لكن حيدر أكمل: ضحكتها.. عطرها.. وصوتها.. كل ذلك مازال يشغل أرجاء ذاكرتي.
قال سعيد وقد بان الارتباك في صوته: لا تشغل بالك يا صديقي، فهي من الماضي، ونحن أبناء اليوم.
قال بحزن: هل ظننتني نسيتها؟ إنها النص الذي هاجمه ارتباكي فلم يكتمل، وأنا القلم الذي تصحّر بعدها فلم يتنفس بأي حرف.
غادة كانت خطيبة حيدر لكنها تركته عندما أصيب في عينيه، وبقيت قصتها جرح في ذاكرته.