الخمس وخمسه في زكاة الفطر.. وقفة تأمل
من المسلمات أن مَن ينتقد أمرًا ينبغي أن يكون عالما بأصوله، عارفا بمسائله، محيطا قدر الإمكان بمضامينه، مدركا لما كتبه من سبقوه، فإذا لم تتحقق في الناقد أحد هذه الشروط أو غيرها مما لم يذكر هنا فإن انتقاده لا يُعتدُّ به. هذا كلام لا يختلف عليه العقلاء، لكني هنا لا أمارس نقدًا دينيًّا ولا أقيّم شرعًا، محاولتي مجرد وقفات تأمل وتفكير بصوت مسموع وحرف مكتوب أرسلتها للعديد من الفضلاء «طلبة علم ومثقفين» لتصويبي وتوجيه البحث وجهة علمية خاصة في الحيثيات التي بنيت عليها استنتاجي وأرائي، لكن للأسف لم أتلق تجاوبًا إلا من عدد قليل جدًا منهم[1] . ولا أريد أن أعطي فرضيات وأسباب تدخلني في النيّات، وهذا لا يجوز لي أو لغيري. ضعف التفاعل هذا، مهما كانت الأسباب، دفعني إلى طرح التأمل في الفضاء العام، لعل هناك مَن يثري الموضوع ويبين سلبياته كي أستفيد أنا قبل غيري، لأنه من مسائل الابتلاء الدوري، بمعنى كل عام سيثار في مناسبته «عيد الفطر المبارك» فالأولى تبيان الأمر بتفصيل ينهي الجدل القائم وأي غلط أو بلبلة حوله. ولا بد لي أن أوكد أن محور المقال هو خمس الفطرة «زكاة الفطر» وخمسه لا ”فرض الخمس“ ذاته، إلا ما له صلة بالمحور الأساس في المسألة التي يتناولها البحث. والله من وراء القصد.
من معاني الزكاة في اللغة النماء والزيادة والصلاح وصفوة الشيء. والزكاة في الاصطلاح الشرعي: ”إِخْرَاج جُزْء مُقَدّر من نِصَاب بنية شرعا“ «مقاليد العلوم، جلال الدين السيوطي». والفطر الاسم من الإفطار «ترك الصوم»، أي اسم مصدر من أفطر الصائم إفطارًا. فزكاة الفطر في الاصطلاح: صدقة تجب بالفطر مِن صوم رمضان[2] ، أي هي الزكاة التي يخرجها الصائم عن نفسه وعن من يعولهم ليلة عيد الفطر المبارك[3] . ويمكننا أن نقول أنها إنفاق مال، محدد شرعًا، يخرجه المسلم عن بدنه «نفسه»، ومن يعول، بسبب الفطر، بعد إتمام الصيام، على وجهٍ مخصوصٍ.
قال الفيومي في المصباح المنير: ”وقولهم - يعني الفقهاء - تجب الفطرة على حذف مضاف، وأصله تجب زكاة الفطرة وهي زكاة البدن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى“، انتهى. فكما أضيفت لفظة عيد إلى الفطر «عيد الفطر، العِيد الذى يَعقب صومَ رمضان» أضيفت الزكاة إلى الفطر، لأنه سبب وجودها، ويقال للمُخرَج فِطرة «بكسر الفاء لا غير» وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة بل اصطلاحية للفقهاء، فتكون حقيقة شرعية على المختار كالصلاة والزكاة «موسوعة الفقه الكويتية، ومعجم متن اللغة، أحمد رضا».
ورغم غياب التأصيل القرآني لزكاة الفطر «الفطرة»، وإن اجتهد البعض في تأويل آية ﴿قد أفلح من تزكى﴾ «الأعلى: 14» وربطها بها[4] مارس المسلمون من عهد النبوة حتى اليوم على أنها ”سنة نبيكم“، كما وصفها الإمام علي بن أبي طالب [5] ، و”فرض رسول الله“ ﷺ، حسب رواية عبد الله بن عمر «رضي الله عنه» [6] ، ورواية مشابهة لعبد الله بن عباس «رضي الله عنه» [7] ، على سبيل المثال، والنبي صلوات الله وسلامه عليه ﴿لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوْحَى﴾ «النجم: 3,4»، ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فُخُذُوهُ ومَا نَهَاكُم عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ «الحشر: 7» [8] . والحقيقة أن لزكاة الفطرة فلسفة عظيمة على المستوى الاجتماعي، بتكافل المجتمع، وعلى المستوى النفسي بتأهيل الفقير وأطفاله ليفرحوا بالعيد.
ولزكاة الفطرة شروط: البلوغ والعقل والغنى و«الحرية»، مع تفصيل في مقدارها ووقت إخراجها ومَن يخرجها وعن مَن. ولكن بالرغم مِن عدم تلازم زكاة الفطرة مع الخمس، الذي يرى الشيعة الإمامية وجوبه في كل المكاسب «الأرباح»، بالتوسع في معنى الغنيمة في ﴿مَا غَنِمتُم﴾ «الأنفال: 41»، وعدم اختصاصها بغنائم الحرب، لاحظنا في السنوات الأخيرة محاولة إقحام الخمس في إخراج زكاة الفطرة، وذلك بتخميس المبلغ المقدر لها مِن قبل مَن لا يخمس لأسباب أرجع لها بعد قليل.
وما لفت نظري في آخر شهر رمضان المبارك هذه السنة «1443 هـ »، هو الطلب بإخراج خمس خمس زكاة الفطر، مما يجعلها عمليًّا تربيع الزكاة، وليس تخميسها، والربع أكثر من الخمس، فلماذا يسمى خمس؟ [9] الفرق واضح بين الأمرين؛ ف 100 ريال خمسها 20 ريال، لكن الحساب الجديد، كما وصلني، هو كالتالي:
100 تقسم على 4 يساوي 25،
يُضاف ”ريال مظالم“ «براءة ذمة عن المغالطات المالية»،
فيكون المخرج كاملًا 126 ريال،
وتفصيله:
100 ريال زكاة الفطر
25 ريال الخمس
1 ريال لكل فرد
المجموع يخرج صرفًا «”فكة“» ومفصلًا، أي ليس في مبلغ كامل «”صم“»، بل كل جزء لوحده وتسلم الأجزاء متفرقة دفعة واحدة للوكيل الشرعي أو للوسيط «جمعية خيرية، أو غيرها».
يرتكز الربط بين الفريضتين «زكاة الفطر والخمس» على رأي للسيد الخوئي «رحمه الله» في أحد دروسه وقد ناقشه الميرزا الغروي «رحمه الله» مخالفًا لرأيه[10] ، وقد وُفق الشيخ محمد العبيدان «حفظه الله» في بحث رصين علمًا وراقٍ أدبًا ولغةً في مسائلة وجه السيد الخوئي في أخذ الخمس من زكاة الفطر[11] ، مما يساهم في تضعيف هذا التأصيل. وقد ذهب هذا المنحى الشيخ زكي اليوسف «حفظه الله» أيضًا في فيديو مسجل على قناة ”اليوتيوب“ مؤخرًا[12] . وهناك أسباب أخرى تبطل التلازم بين زكاة الفطر والخمس، نعرضها سريعًا وباختصار في الفقرات التالية.
أولًا: استقلالية زكاة الفطر كفرض
زكاة الفطر لا تستلزم مواضيع أو عناوين أخرى. الفطرة واجبة على المكلف بالشروط الذي سبق ذكرها صام المكلف أم لم يصم، صلى أم لم يصلِ وإن تركهما «الصوم والصلاة» أو أحدهما مع كونه ذنبًا عظيمًا لا يُسقطُ وجوب زكاة الفطر، فإنها واجبٌ مستقل، وقد فرضها النبي ﷺ على كل مسلم[13] يدفعها عن نفسه وعن عياله كبيرهم وصغيرهم مع أن الصوم ليس مفروضًا على الصغير؛ غير مكلف بالصيام مع تكليف بدفع زكاته، وإن كان غير مباشرة. وكما أن الصوم لا يستلزم الصلاة، أو عبادة أخرى، بمعنى أنه عليه الصوم وإن لم يصل وهو مأثوم بترك الصوم، كذلك إخراج زكاة الفطر لا يسلتزم المكلف أن يكون من المخمسين «أي لديه دفتر خمس وسنة خمسيّة».
ثانيًّا: زكاة الفطر ليست زكاة مالية
قد يظن البعض أن زكاة الفطرة هي زكاة مالية، أو قد يخلط بين الإثنتين. ويمكن ذكر أهم الفوارق بينهما لتوضيح الصورة والفرق بين الزكاتين.
«1» زكاة المال تتعلق بالأموال المدَّخرة، أمّا زكاة الفطرة فتتعلق بالأبدان، أي الأشخاص الذين يُنفق عليهم الإنسان[14] . بمعنى أن زكاة المال يخرجها الإنسان عن نفسه من ماله الذي يملكه فقط، أما زكاة الفطر فتلزم المزكي إخراجها عن نفسه ومن يعيل «عائلته»، زوجته وعن كل من تلزمه نفقتهم من أولاده ووالديه إذا كان يعولهما[15] .
«2» زكاة المال لا تجب إلا عند بُلوغ النصاب «وهو المبلغ المحدد شرعًا بعشرين مثقالا من الذهب أو مائتي درهم من الفضة»، أمَّا زكاة الفطر فلا يُشتَرط فيها نصاب معيَّن بل تجب على مَن يملِك قوت يوم العيد وليلته له ولمَن تلزمه نفقته.
«3» زكاة المال ليس لها وقت معَيَّن تخرج فيه بل هي مرتبطة بمُضِي حول كامل على النصاب، أما زكاة الفطرة فلا تكون إلا عن شهر رمضان.
«4» مقدار زكاة المال هو ربع العشر «أي 2,5%»، أما زكاة الفطر فمقدارها صاع «ثلاثة كيلوات» من أرز أو قمح أو غيرهما مما يقتَاتُه الناس، وأجاز أغلب الفقهاء المسلمون دفع قيمة المُخْرَج «الصاع المختار». هذا التجويز النقدي «القيمة المالية» عارض على الأصل ولا يحيلها إلى زكاة مالية يتعلق بها الخمس.
ثالثًا: زكاة الفطرة لا حول لها
زكاة الفطرة لا علاقة لها بالحول، كما مر في الفرق الثالث في فقرة «ثانيًّا: زكاة الفطرة ليست زكاة مالية» أعلاه، أو السنة الخمسيَّة وقد تدخل هي ذاتها في عنوان المؤنة «مصاريف السنة»، بحيث قد يخرجها الكثير من الناس من دخل «راتب» شهر رمضان أو شعبان أو رجب، على سبيل المثال، فلا خمس فيها. لذا نرى أن الشيخ الفياض «حفظه الله» يقول: ”لا يجب في زكاة الفطرة الخمس، إلاّ إذا دفعها من أرباح دار عليها الحول ولم تخمس فحينئذ يجب عليه خمس قيمتها“ «الاستفتاءات الشرعية ج 1، ص532». وهذا رأي السيد السيستاني أيضًا «انظر الفقرة التالية».
رابعًا: أصالةُ طهارةِ مال المسلم والفطرة بركة ونماء
فإذا كان يجوز الأكل مِن طعام مَن لا يخمس، حسب روايات أهل البيت والمراجع «السيد الخوئي، السيد السيستاني السيد الخامنائي، وغيرهم»، فلا إشكال في أموالهم ولا شائبة تمنع إخراج زكاة الفطرة منها[16] . هذه أموال محترمة لا تستحق النعت إلا بما يليق بالجهد والعناء والعرق والمخاطر في سبيل تحصيلها، إضافة إلى أن زكاة الفطرة ليست زكاة مالية في الأصل. هذا، والزكاة ”مُطهرِة“ بذاتها، قال تعالى: ﴿خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ [التوبة: 103]، فلا أثر للخمس، دُفع أم لم يُدفع، بمعنى أن الزكاة صدقة مقدرة بأصل الشرع ابتداءً تثبت في المال أو في الذمة للطهارة لهما فزكاة المال طهر المال وزكاة الفطر طهر للأبدان، أو لتزيكة الصوم، كما في معجم لغة الفقهاء، لمحمد رواس قلعه جي وحامد صادق قنيبي.
الذي توصلت إليه بفكري القاصر، وبناء على ما تقدم، والعلم عند الله، أن لا خمس في زكاة الفطر، لا تأصيلًا ولا واقعًا، على مَن لا يخمس، ولا خمس في خمسه الذي لم يقم عليه دليل بعنوانه، وحسابه ليس له علاقة بالرياضيّات، حسب فهمي المحدود في هذا العلم، إنما هو التفاف اقتصادي بحيلة شرعية للتربيع[17] ، ولأنه، ولو بِطلةٍ سريعة على إجابات المراجع عن سؤال: ”هل يجب على مَن لا يخمس أن يخرج خمس زكاة الفطرة؟“، نجد عدم الاتفاق بين المراجع، لكن ما يهم موضوعنا هنا هو إجابات بعضهم كالتالي:
- إذا كانت زكاة الفطرة من عوائد نفس السنة فلا يجب تخميسها «السيد السيستاني»،
- لا يجب ذلك «السيد الخامنئي» [18] .
وفي الختام، أعرض بعض ”الأمنيات“ تحقيقًا لتنوير المكلفين وإنهاء الجدل والجدال حول المسألة:
«أ» أتمنى أن يُعطى رأي السيد الخوئي «رحمه الله» حقه من البحث والتفصيل، كي يظهر وجه قوله في خمس الخمس، أو الربع، وغير ذلك من القضايا المتعلقة التي قد يُبنى عليها بعض الأحكام في العنوان. لذا أشارك الشيخ العبيدان «حفظه الله» أمله ”أن يرفدنا الأخوة [طلبة العلم] بما لديهم من وجه يصحح أخذ الخمس من زكاة الفطرة، حتى نكون على بينة من أمورنا فيما يتعلق بشؤوننا الدينية“ [19] .
«ب» ويرتبط بهذا الموضوع أن إحدى الإشكاليات في أدبيات الفقه التشريعي أنه ”لا يوجد لدينا في الأدلّة المعتَمدة شيءٌ يميّز بين الفتوى والرأي العلمي [للفقيه]“ [20] ، لذا أتمنى أن يحظى هذان الاصطلاحان وما يرتبط بهما من ألفاظ وعناوين بشيء من التفصيل والدقة أيضًا.
«ج» قد يبدو لدى البعض أن ربط إخراج زكاة الفطرة بالخمس مؤشرٌ إلى اعتراف ضمني بأن هناك شريحة من الناس، لا يُعلم حجمها مع غياب الإحصاء العلمي، لا تدفع الخمس، وإلزامهم بدفعه ولو في هذا المقدار القليل من المال، وقد يهدف أيضًا إلى إبقاء ”فريضة الخمس“ حيَّة في عقيدة وسلوك المؤمنين باستغلال المناسبة الدينية وإيحائيات لغة ”الخطاب الخمسي“، والمشتمل على مفردات ومصطلحات وصفية ترسم صورة أقل ما يقال عنها أنها سلبية بحق المتخلفين عن دفع الخمس وأموالهم «انظر ما جاء في فقرة استقلالية زكاة الفطر أعلاه كإشارة عابرة لجزء من هذا الخطاب» [21] .
لذا أتمنى أن يُدرس ”العزوف عن الخمس“ بعمق ويناقش بالتفصيل، لمعرفة هل هو حالات أم ظاهرة؟، ولمعرفة الأسباب في الوضعيتين، ومدى انتشارها، ووضع الحلول لها، والتعامل مع الحقيقة مباشرة وبشفافية وبطرق مستقلة وبواقعية. فالاعتراف بالمرض جزء من تشخيصه وتشخيصه الجيد نصف علاجه بالأدوية والأدوات المناسبة حسب هذا التشخيص، وتكون لغة ”الخطاب الخمسي“ معاصرة وملطفة غير منفرة حيث ثبت عدم فعالية اللغة التقليدية في اقناع الفئة غير التقليدية بالخمس والتخميس، فالمفردات المستعملة قد تكون طاردة لذى بعض المتلقين للخطاب الديني السائد، والله أعلم.