أوهامنا التي لا تنتهي
من أبرز السمات والصفات التي تميز حياة الطفولة عن مراحل النضج، هو ذلك الخيال الجامح وخلط الخيال بالواقع لدى الأطفال، الذي يفسر لنا ربما تعلقهم البارز بأفلام ومسلسلات الرسوم المتحركة، ويمكنك أن تتخيل ذلك الحجم الهائل من قصص الخيال المناقض للواقع عند الأطفال، الذي يمكن أن يعثر ويحصل عليه من يتتبع تلك النوعية من القصص. ورغم لطائف وجماليات هذا الخيال الجامح وإبداعاته في تلوين صورة هذا العالم، إلا أن الحياة في عالم الوهم بلا شك مضرة لنا ولهذا العالم جداً، ولها عواقب سيئة وخطيرة للغاية، لو استمرت الأوهام والتصورات الخاطئة معنا، لتؤطر فهمنا وسلوكنا وسيرنا في هذا العالم. يدرك ذلك كل عاقلٍ بداهةً، لذا يستكشف الأطفال عالمهم بسرعة، فيطرحون الكثير من التساؤلات في وجه الكبار في مراحل الطفولة المبكرة، بهدف بناء وتعزيز إدراكهم الواعي لهذا العالم، ليصلوا في النهاية لحالة معقولة ومناسبة من التوازن بين مستويات التفكير المجردة لديهم من جهة، وحياتهم الواقعية المعاشة من الجهة الأخرى. لكن، هل تنتهي رحلة الوهم لدينا حقاً بمجرد مغادرتنا نحن البشر لمراحل الطفولة وعوالم أوهامها؟ أم تستمر الأوهام في صور أخرى خفية تشكل عقبات حقيقية في وجه تقدم وعي ونضج البشر؟.
وهنا بالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، دعوني أسرد لكم هنا باختصار، واحدة من شواهد القصص الواقعية اللطيفة المرتبطة بخيال الطفولة، التي عشتها في المراحل المبكرة من العمر، ولا زلت أذكرها، ولا زالت راسخة في الذاكرة، ساخرة من تفكيرنا الطفولي وبراءتنا المفرطة، وهي تجربة حياتية عشتها للحظات في صدمة مؤقتة مع كذبة أحد صبية حينا الذي كنا نسكن فيه «صبيان الحي - كما نقول -»، عندما ادعى ذلك المشاكس الصغير - رغبة منه ربما، في صرفنا من المكان عصر ذلك اليوم، لسرقة بعض طيور الحمام - أنه تم العثور على ”السنافر“ - تلك المخلوقات الخرافية الصغيرة الزرقاء اللطيفة الكرتونية - في مكان ما بعيد قليلاً ومنزوٍ في الحي، فهذه الكذبة والحبكة البلهاء، التي تستثمر أو تستغل خيال الطفولة، كادت أن تمر، لتكون القصة أكبر، لولا وميض شيء من الريبة والشك فيما قال - فما أحسن وأجمل الشك هنا -، ولولا ذلك لكاد التصديق أن يقع، وأن يحصل المشاكس على ما أراد، لولا صعوبة الاندماج مع هكذا خيال منفصل عن الواقع لفترة طويلة، بل إن هذه الحبكة بالطبع، مما لا حاجة للتمحيص، ولا التأمل فيه مطلقاً، بالنسبة للكبار.
وفي الحقيقة، يشكل الوهم والخلط بين الخيال والواقع مساحات ضخمة في ساحة الحياة البشرية، وكثيراً ما نقابل الواهمين في حياتنا كل يوم، بل هم من الكثرة في هذه الحياة للدرجة التي يتعذر فيها علينا حصر أعداد الواهمين أو إحصاؤهم، وكذا أيضاً من الصعب تصنيفهم وفهم كل أنواعهم، وبالطبع يعرف الواهمون من يعرفهم، وسيجهلهم من يجهلهم، وعليك أن لا تستغرب أن تكون أنت تحديداً، مهما ارتفعت مرتبة معارفك وعلومك ورتبتك، ومهما برزت قواك العقلية، أحد هؤلاء الواهمين الكبار في عالمنا هذا، فالأوهام كتب تكتب، ووثائقيات تنشر، وأدلة تلفق وتروج، وبحوث ونقاشات تخوضها هامات تحترم، ولو اكتشفت حجم أوهامك واستفقت من الغيبوبة التي تصيب الكثير منا نحن البشر، ربما مت من الضحك على سخافاتك وسخافات من حولك، أو ربما مت من الحزن كمداً وغماً ووجعاً بسبب سوء فهمك وأخطائك وتصرفاتك وخسائرك الفادحة التي قد لا تعوض.
وفي عالم اليوم، من باب ضرب المثال، والأمثلة تضرب وتعدد ولا حصر لها هنا، يوجد حولنا كثيرون ممن يعيشون أوهام تصديق زيارة الأرض من قبل مخلوقات فضائية مثلاً - وقرأت في ذلك الكتب والبحوث، من تأليف أهل الشرق وأهل الغرب -، وكثيرون أيضاً ممن يصدقون أغرب الحكايات التي تشاع حول مثلث برمودا، وهناك من تضخمت قضايا الجن والشياطين وتلبسهم بالإنس في أدمغتهم بشكل لا حدود له، كما أن حولنا في هذا العالم كثير من المغالطات لكروية الأرض، ورحلات الفضاء واستكشاف القمر، وهناك من يعتقد أن العلم قد أثبت أن الماء يعيد تشكيل بلوراته إيجاباً أو سلباً بحسب المدح والذم الذي يسمعه ليصبح ضاراً أو نافعاً، وتزدهر على كوكب الأرض الكثير من العقائد والمعتقدات الغريبة العجيبة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكثيراً ما تشاع مغالطات وأكاذيب وتمرر على أنها مثبتة علمياً أو دينياً أو تاريخياً ليفرض تصديقها عليك وعلينا جميعاً، وهذه الأمثلة كلها تشكل فقط جانباً واحداً، وقطرة واحدة فقط، من قطرات بحار ومحيطات توهماتنا الواسعة نحن البشر، التي تهدم الوعي، والتي قد تنطلي علينا وإن كنا نعيش في مرحلة متقدمة من مراحل العمر أو المعرفة.
وفي جانبٍ آخر مماثل، سترى شاباً لا يملك من خبرات الحياة شيءً يذكر، ينسج خيالات واسعة غير واقعية لحلم تجاري يترقب تحقيقه، يريد بالقوة أن يفرض على كل معادلات الحياة أنه مشروع واقعي ناجح، فيجمح به الخيال الواسع، بعيداً عن الواقع، وسترى أيضاً مريضاً متعلقاً بقشة أحلام غير واقعية، متوقعاً أن ينجيه الطب الشعبي، أو الطب العشبي، من أمراضه المستعصية، التي لم يفلح الطب الحديث بمختلف فروعه وفنونه، في تجاوزها، وسترى أيضاً أحلام العاشقين ومتاهات أوهامهم الفكرية، المتعلقة بالحب والعشق ومن يعشقون أو يحبون، خصوصاً عندما يكون الحب لديهم أبلهاً من طرف واحد، وربما رأيت عياناً بياناً بأم عينيك، كيف ينسج العاشق الولهان أفلاماً رومانسية غير واقعية - قد تصادف الكثير منها عندما تبحر في تتبع ودراسة ظاهرة ”الخرفنة“ في بعض الدول -، وستجد أيضاً غير هذا كله، الكثير الكثير من أشكال الأوهام والخيالات والخزعبلات وحدث ولا حرج.
فهذه كلها، صور لتوهمات موجودة في الواقع، وأوهامنا الكثيرة جداً لا يمكن حصرها ولا طمر بحورها المتلاطمة، وبحورها لا تعبر بسهولة بمجرد عبور مراحل الطفولة المبكرة، وعلى الواهمين الكبار قبل الصغار أن يفتشوا أنفسهم - أدمغتهم وجماجمهم -، أياً كانوا وأياً كان حجم معارفهم وحسن ظنهم بعقولهم، ومن الضروري جداً والواجب أيضاً، أن يستفيقوا، كي يعيشوا الواقع والحقيقة بعيداً عن الهلوسات غير الواقعية، والله سبحانه يعلم أن المسكوت عنه أكبر وأضخم مما تعلم ومما نعلم ومما يعلم العارفون، وكثيراً ما يستمع بعضنا للأوهام والخزعبلات والتهيؤات من أفواه مختلف الأفراد من حوله، فيكون الصمت هو الخيار الآمن والأمثل له، لصعوبة المواجهة مع بعض أنواع هؤلاء الواهمين، لشدة تعلقهم بأوهامهم الساذجة وتمسكهم بها واستماتتهم في الدفاع عنها، ولكثرتهم المفرطة وتحزباتهم الصلبة، ولعدم قدرتهم على الاستماع للآخرين المختلفين عنهم. فاحذر أخي القارئ العزيز ولنحذر معاً جميعاً غرور المعرفة والوعي، فرحلة الوهم ومسيرة خلط الخيال بالواقع لم تنتهي بعد بلا شك، وهي لا تنتهي في طفولتنا كما قد يتصور البعض، بل لها صور وأشكال عجيبة غريبة قد لا تخطر على قلب بشر، ولها نفاذ سحري لأدمغتنا وأفكارنا وقناعاتنا قد يبهرك، لذا قد تطول الحكاية، وقد يمتد معك الوهم لآخر العمر، فهل سيستفيق الغافلون منا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويظنون أنهم خارج دوائر وسرب الوهم؟!.