آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:07 م

أمي من فريق الأطرش «12»

عبد العظيم شلي

أحاديث تتشعب وذاكرة أمي كنز ثمين، أتوه عبر الحكاية والأهزوجة وقصص الأولين، يتمدد الوقت لحياة لم أعش وقائعها، أراها بعيون أمي وجدتي وخالتي زليخة وخالي حسين.

امتزاج مرئيات عاصروها وسمعوا عنها، تختلط فيها الأزمنة بالأمكنة، وبروق الأخيلة، أقف حيرانا بين المدرك وغير المعقول، لكني أستأنس سفرا للعوالم الخفية، وما وراء الظنون، أرتحل بلهفة والشوق عناق، والفضاء حنين، أُصافح كل من عاش على هذه الأرض بين الضني وارتحالات الأنين.

حوارات متناثرة وصور متداخلة، مواقف منسية تنهض من مرقدها، مشاهد تقادم عهدها تحيا من جديد. بين التساؤلات والإستفسار والتصديق والتفنيد، باغتتني والدتي بجملة استفهامية وبنبرة استنكارية، «عجل ماتصدق بما جاء به القرآن»، أردّ عليها بهدوء وابتسام، مصدق بكل آية وحرف من كلام الله، وتوضح مستعوذة بالله «وأنه كان رجال من الإنس يعودون برجال من الجن فزادوهم رهقا»، وتضيف حسب المرويات المتداولة: ”ترى الجن يفهموا لحچينا ويعرفوا ويش نقول، من قبل كانوا يطلعوا شاهر ظاهر، وشافتهم أمي وناس واجد - شفتيهم يا أِماه - الله لا يراويني وياهم، احترزت منهم بقراءة المعوذات“، وأرد عليها باستدراج وإيغال في الاستيضاح بشيء لا يخلو من المشاكسة طمعا في سبر عوالم الجان في الذاكرة الشعبية ”أي وقت كانوا يطلعوا الجنانوه، النهار أم الليل، ومن الذي يحضر أكثر الجني لو الجنية، وكيف لبسهم مثلنا لو ما عليهم ستر“ زطيه ”، أحجامهم، أطول منا لو أقصر، أنحف لو أضخم، وكيف تتوالد هذه الكائنات الغامضة، وهل هم قبائل وشعوب، وما هي طبيعة الكلام الدائر بين الأنسي والجني، تهديد، تخويف، لو سوالف عادية“.

توضح والدتي والأمنية تسبقني لو كنت أسترق السمع وهي تتحدث بين نسوة في عمرها مررن بذات اليقين لظفرت بسرد صور كالمرايا المتقابلة: ”يا ولدي، ترى الجن بعضهم يأذوا من يادم، ومنهم مسالمين وصنف رحمانيين، وفيهم اذكاره ونفيات، - من الذي أخبرك؟ - هذاهم يقولوا افلان متلبستنه جنية وين ما يروح كل وياه وتعلمه بأشياء قبل لا تصير، ويقول للناس بعد أيام بيصير شيء، كيت وكيت، وتالي يصير، ما أدري چيفه صار كلامه سطر المسطره، عجل ويش عرف ضرابين الفال عن أسرار افلان وفلتان، من علمهم، يقولوا عنهم يتواصلوا مع الجان، وملا فلان كان يحضر الجان في قدح ويستووا زي العصافير، چم مره فچوا گيد المتلبسين، وطلعوا من أجسادهم الجن، وديك فلانه المسكينه كانت تحب زوجها وعلى سفرة العشاء ضربت سنور أسود بالملاس وطفرته عشان ما يأكل اودامهم، لو فالته له سمچة صافية چان افتكت، أصبح الله الصباح انقلبت حياتها فوق حدر، صارت ماطيگ أحد، كرهت زوجها، وتخوبلت لأن السنور طلع مو حيوان، جني منقلب سنور، تزوجها غصبا عنها وصادفها مصادف، وتحط ادست في أولادها، وتصورخ زي المجنونة الله يدفع البلاء، هذا من ويه كل من فعايل الجنانوه“!

يلتبس التصور بالإيهام وحالات الهلوسة بالانفصام، أحدث نفسي بشيء من الهممة " عن صيغة عقد النكاح، من أين للجني لسان التخاطب، وكيف ينطق الجني بالعربية ويتحاور بكلامنا الدارج، معنى هذا بأن الجن يتقنون لغات عديدة بآلاف اللهجات المحلية، لأن كل بلد من أمم الأرض لديهم ميراث عن حكايا الجن، ثمة رؤى متباينة حتى في الكتب المقدسة عن تصورات الجن.

أوضحت لوالدتي استغرابي عن أخبار الجن، فالكثير منها متشابه، والحكاية عينها قيلت في أماكن بعيدة بتفاصيلها، مما يعني نقل حوادث الجن بالمشافهة وتجييرها في مكان ما قد لا يكون حدثت فيه أصلا، والغريب اتهام الجن بأنهم وراء الفقر والعجز والصرع والجنون وقلة الحظ.

”بس يا أماه، الحين ما أشوف أحد يتكلم عن الجن مثل أول، هاجروا، لو اختفوا، وين راحوا، يمكن ما في شيء صار مجرد تخيلات، ورؤية أحلام، وربما“ أوادم تتخبز" تختفي وراء نخلة ويصدروا أصوات خشنة لتخويف الناس، ويقولوا سمعنا جني ليلة البارحة، قاطعتني: ”تبغى تقول لي بأن ما في جنانوه يطلعوا، لو أعلمك عن بعض بيوت في الديرة صفّرت من أهلها بسبب مراقص الجنانوه، بيوت حليوه انهجرت وصارت خرايب، وماتوا بعض أهلها بسببهم، مو قال قالوه، سمعت الحچي من اللي طفرتهم الجنانوه، ناس مؤمنة تحلف وتقسم بأنهم شافوهم، يتخاطروا عليهم أنصاص الليالي، ما يخلوهم يناموا من داك الونين والرديح ومراچخ البيبان والدرايش، الله يكفينا شرهم، ترى الجنانوه يمر على الناس ويشوفونا، وماحد يدري عنهم، لأنهم يتقلبوا على كل رنگ، سنانير، حماير، صخال، عواوي، طيور، شفت فلانه إذا دق عليها طيرها، يا غياث المستغيثين يبهدلها فوق حدر، تغيب وتحضر، ما تعرفها من هيه هالمره، تتغير ويتنفخ وجها وتتزير عافيتها ويزبد بوزها، الله يدفع البلاء، ما سمعت عن الجني اللي يطلع في البحر،“ أبو مغوي ”اللي يسبح في المگطع بين تاروت والقطيف قبل لا يستوي الجسر يزعق على الناس اللي رايحة وجاية، يقول ليهم تعالوا الدرب منيه، مو مناك، نيته يأخذهم للمكان الغزير يغرق قواريهم وعبراتهم في الخور، سوالف صارت واستوت من فعايل الجنانوه، أعوذ بالله من شر الإنس والجن، يمكن مو كلهم شر ولا كل بني آدم خير، والبلاء موجود في الافنين، يا ولدي اقرأ القرآن وادبر آياته، الجنانوه موجودين من خلقت الدنيا“.

وبّخت نفسي لعدم مجادلة والدتي اثناء استرسالها في تقليب صفحات ذاكرتها المتموجة بالعجيب والغريب، ساعيا بكل حواسي والحماس لهفة أن تبوح لي بكل شيء، دوّنت وقائع ومشاهد غرائبية، جالت في نفوس حاصرها الخوف والموت.

أستأنس بطيب الكلام مرات، ولحظات أتوجع، بل يغالب الحلو المر تارة، وأخرى العكس، يربكني سماع مشاهد مفجعة ليست من وحي الخيال إنما أشد من الخيال نفسه، عن أيام الضنك القابضة على مهجة الأرواح باحتسائها الفقر، سكارى لا يدري بهم أحد إلا من رقّ قلبه ودسّ لقمة لوجه الله، التضور جوعا آفة أكلت ماء الوجوه، نسوة لم يكذبهم البصر، وقفن أمام رسو محامل الغرباء يتسولن ”آنية وربية“ باذلال وامتهان كرامة و«..........». سوء المنظر لم يطمر تحت التراب نلقاه يتكرر في هذا الزمان المتوحش، مشردو الحروب والفارّين من البطش، الهائمون في دروب المنافي، والضائعون في الأزقة الخلفية والقابعون خلف الجدران المتصدعة.

ينسلّ مشهد آخر أخبرتني به والداتي عن أمرأة لا تملك من اللباس إلا ثياب مهترئة بالية، تسحب رجليها إلى مغتسل المقبرة لتلتقط بقايا ملابس الموتى!! وحين ترتديهم، يسألها البعض، من أين لك هذا؟ أفصحت بصدق مشوب بالخجل، استنكروا مصافحتها هروبا من رائحة الموت، وتأوهوا لدخولها المكان بمفردها وعدم الخوف من ”ديدعة المغيسل“ المسماة ”شيبة“، قالت والخاطر مكسور، ”ويش أسوي الله يعلم بحالي ألبس فياب مفلتين حتى أستر عافيتي عن سموم الگيض ومرابعين لشتاء، لا أخو عندي ولا رجل يحميني، البين خطفهم وخلاني وحيدة وعندي كسكسة جهال“! كم من أنفس شبعت قهرا من ضيم الأيام. أحكّ رأسي متعجبا من هول ما أسمع، قالت والدتي: «الفقر وهذا ما يسوي».

في سنين الضعف هبّت البطون لأكل الجراد والعصافير وجلد أرجل الدجاج، وطائر البحر ”اللّوه“ ودجاجة ”اعدى“ المتواجدة عند جداول الماء. الجوعى لا يجدون قطعة خبز، نقعوا خشوف الرطب ولحسوا ”ظروف التمر“ مع الأسف باتت الصورة اليوم معكوسة، أكداس أرغفة الخبز تلقى في حاوية القمامة!.

تقول والدتي: ”الحمد لله، الحين الناس صارت بخير لكن قاموا يلعبوا بالنعمة، مادروا عن سنين الفقر ومصايبها“، يتدحرج الوعي ويغيب الفهم، وبخضة السؤال كطفل لا يعلم شيء أقول لوالدتي معقول كل هذا صار، ترد باختصار: ”ويش قال الإمام، - لو كان الفقر رجلا لقتلته - ما قالها منا والطريق“.

ثمّة أشياء تتوارى عن البوح، والصمت لحظة استغفار، أستند على مسند التيه وأغفو لحظة، بقلب الصورة عبر «لو»، لولا قطرة البترول التي رحمت بنا، لبقي حالنا بين كرّ وفرّ، نتحسّب لعنات الفقر وهجمات البُداة.

سنين العوز والقحط كوابيس جثمت على الصدور، أوجعت الضمائر وأدمت القلوب. لا تتكلم عن فلسفة التُقى والفضيلة طالما يتضوّر الجسد جوعا ويستأكل المحروم كسرة خبز.

لفحة تذكير مثل رشحة ماء على وجهي الذي اكتساه غبار أوجاع المستضعفين، ”يا ولدي حين نتوجه إلى القبلة عند كل صلاة، ويش نقول: أعوذ بالله من الفقر ومن الشيطان الرجيم“، أول شيء الفقر، ومن بعده الشيطان ".

استفسرت عن زمن لم أعشه إلا لماما، ما مقدار مساحة التباين، هل كل الناس كانوا فقراء وضعفاء، أجمعت الآراء، صنف أغنياء بتفاوت وصنف فقراء ومنهم المطحونين وما بينهم ميسوري الحال، البحارة والقائمين على الزراعة هم في نعمة وخير، وكل ذي صاحب حرفة يتحصل على قوت يومه، ولم تكن أي مهنة مشينة، هناك الرواي، والدلال، ومنظف الطرقات وجامع القاذورات ومستخرج فضلات الحمامات، ونسوة كافحن لجلب القرش، افترشن الطرقات لبيع السمك والريحان والخلال. برغم حالات الضنك وموجات العسر، ثمة قدر من التراحم بين الناس. إن كان الفقر هيمن سنينا فإن شيئا آخر يوازيه حضورا، تلك الأرواح الخفية. فقد نبذت أمي العودة، ”المنادبين“ خوفا من ”اسمله وبله“، ونجت صديقتها من هلاك ”أم الجزر“.

بين الواقع والمتخيل وبين قسوة الحياة وشظف العيش المغموس بالجهد والمرض والفقد، ثمة تهيؤات تتراءى لهن كواقع معاش، حكايات مسرحها جدران البيوت العتيقة وظلمة غابات النخيل المعتمة، والمشي في دروب الليالي المقمرة، طائفة من صور ومشاهد معلقة على أستار الزمن لم تزل تحيا في الذاكرة، إحياؤها ليس ترفا إنما رسم معاناة الأسلاف، والاقتراب قدر الإمكان من حيوات قد تبدو مغيبة.