المجلات الثقافية.. سؤال المستقبل
كما ينتظر الناس اليوم نزول منتج إلكتروني جديد بشغف كبير، كان أسلافهم قبل عقد أو اثنين ينتظرون كل شهر صدور عدد جديد من مجلتهم المفضلة لكي يشبعوا شغفهم الثقافي. ذلك أن المجلات الثقافية كانت البوابة الثقافية المتجددة شبه الوحيدة للمثقف أو من يطمح أن يكون كذلك. في ذلك الزمن القريب كانت قنوات الثقافة محدودة جدا ومنحصرة في الكتب والمجلات والإذاعة والتلفزة إلى حد ما. وحتى المجلات كان تعاني من مشكلات التوزيع والوصول إلى مختلف شرائح المجتمع العربي. وقرأنا في مذكرات بعض الأدباء والرحالة أنهم كانوا يقطعون الفيافي من أجل الاطلاع على دراسة في مجلة أدبية أو ثقافية في شرق العالم العربي أو غربه. ولذلك فقد كانت المجلات الثقافية تعيش آنذاك عصرها الذهبي وكان عدد منها ينفذ من الأسواق فور صدوره، وكانت تستقطب أفضل الأقلام الفكرية والثقافية في العالم العربي لأنها تعكس بالضرورة هوية الدولة التي تصدرها ومستوى اهتمامها وشعبها بالفكر والثقافة.
فمجلة العربي «مثلا» وهي المجلة الثقافية الرائدة التي ساهمت في إبراز عدد من المفكرين كما ساهمت في صنع عدد منهم أعطت للثقافة طعما لذيذا بأسلوب راق وطريقة إخراج وطباعة جذابين، كما دشنت في مختلف مراحل صدورها عهودا زاهية من الفكر والثقافة يحتفي بها المثقفون. ولم تك تخلو مكتبة منزلية من هذه المجلة التي كان يفخر الجميع باقتنائها وسرد مضامينها لأقرانه، تماما كما يفعل البعض اليوم عندما يحاول أن يفتخر بآيفون 6 أو جالاكسي نوت أو آيباد. وكان غاية حلم المثقف العربي في فترة ما أن ينشر له مقال في هذه المجلة ويعتبر ذلك وسام شرف له ولسجله الأدبي. ولا عجب في ذلك وقد كتب فيها عمالقة الأدب العربي مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ونزار قباني وغيرهم. ولا تزال «مجلة العربي» من المجلات العربية القليلة التي تشعر بعد قراءتها أنك أضفت إلى مخزونك الثقافي والفكري الشيء الكثير.
وكما كان يقال سابقا إنه «لو خيرت بريطانيا العظمى بين شكسبير ومستعمراتها الهندية، لما عدت الأولى»، فإن مثقفو الكويت قد لا يختارون على مجلة العربي شيء لو خيروا بينها وبين حقل برقان النفطي. ولذلك فإن المجلة العريقة التي تتصدر رفوف المكتبات لم تتوقف إلا فترة قصيرة أثناء الغزو العراقي للكويت.
تميز الدكتور زكي أحمد «وهو أول رئيس تحرير للمجلة» بمقومات أفضل رئيس تحرير واستطاع بقدراته أن يبز نظراءه بفارق كبير بينه وبينهم، واستطاع أن ينقل الكويت «قبل الاستقلال» إلى مصاف الدول الناضجة، كون الواقع الثقافي يعكس مدى النضج السياسي وعمق الاستقرار في أي بلد. وشعر جميع متابعي المجلة بالصدمة عندما توفي في العام 1975، رغم محاولات الأستاذ أحمد بهاء الدين تعويض ذلك. وقد تناوب على رئاسة تحريرها خمسة هم: د. زكي أحمد، أحمد بهاء الدين، د. محمد غانم الرميحي، د. سليمان العسكري، د. عادل سالم العبد الجادر، أول اثنين كانا من مصر قبل أن يتولى رئاسة تحريرها كويتيون.
وقد ساهم في استقرار العربي كمجلة ثابتة الأركان لم تتأثر بأي هزات سياسية أو اقتصادية صدورها عن وزارة الإعلام الكويتية. فرغم أن المجلة كانت ولا تزال «شهرية ثقافية» بالدرجة الأولى كما يكتب على صفحتها الأولى، إلا أنها كانت لا تخل من رائحة سياسية، خاصة في «حديث الشهر» الذي يكتبه رئيس التحرير. وبطبيعة بانتماء المجلة «تصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت»، فإنها تلتزم بالخطوط العامة لسياسة دولة الكويت، ولا يتوقع أحد أن تتبنى آراء متباينة مع ذلك. ومما تحسد عليه المجلة أنه ومنذ صدورها في العام 1958م وحتى اليوم لم يظهر تغيير صارخ على شكلها الخارجي أو مقاس طباعتها، وكانت تتبنى دائما أفضل أنواع الورق في زمن صدورها. وربما أراد بعض رؤساء تحريرها طرح أفكار لا تتطابق والرؤية الرسمية للدولة، لكن ذلك لا يمكن أن يستمر في ظل التمويل الكامل للمجلة من وزارة إعلام الكويت. وللحقيقة ما كان يمكن للمجلة أن تستمر في الصدور والتألق بدون الدعم الحكومي الذي أسس لاستقرارها وثباتها طوال العقود الماضية.
وهكذا تأثرت المجلة صعودا وهبوطا بتغيير رئيس تحريرها، كما تأثرت بالغزو العراقي للكويت، وأصاب المجلة بعض الفتور في مبيعاتها مع انتشار تقنية مواقع الإنترنت، حيث إن الكثيرين صاروا يقرأون أكثر مقالاتها على النت بدلا من شرائها من الأسواق رغم أن أعداد طباعتها وصلت إلى 250 ألف نسخة شهريا. واستنفذت الأجهزة الحديثة أوقات الشباب الذين كانوا يترقبونها في حقبة ما ليتحولوا إلى متابعة أمور أخرى يحسبونها أكثر أهمية أو أكثر جاذبية من مجلة ثقافية يرونها كئيبة. وكانت المجلة للحق غالبا ما تحاول مواكبة التطورات التكنولوجية أو حتى العلمية.. فإضافة إلى المجلة الأم هناك العربي الصغير، والعربي العلمي، وكتاب العربي وبث فضائي، كما عقدت عدة ندوات علمية وفكرية ثقافية داخل وخارج الكويت. ولا يزال لدى الكثير من الأدباء والمثقفين العرب حنين وتوق لهذه المجلة التي تمثل نموذجا متألقا للمجلة الناجحة والتي استطاعت الصمود في وجه مختلف أعاصير السياسة والثقافة والتقنية.