وَصْفُ فَضْلَةٍ
قَادَتْهُ أحَاسِيْسُهُ نَحْوَ مَا تَبَقَى لَهُ مِنْ عُمْقِ مَاضِيْهِ التَّليْدِ، تَسَارَعَ بِهِ عَدَّادُ الزَّمنِ الَّذي لَمْ يَتَوَقَفْ عِنْدَهُ ولَا عِنْدَ غَيرْهِ. أدْرَكَ أنَّهُ لَا مَحَالَةَ سَيَنَالُ مِنْهُ زَحْفُ كِسَاءِ الْمَشِيبِ نَيْلًا، وَكَمَا وَصَلَتْ النَّوْبَةُ إلَى غَيْرِهِ سَتَصِلُ إلَيْهِ.
لَمْ يخطرْ بِبَالِ نَادِمٍ ذَلِكَ، ارْتَقَى بِدَرَجَاتِ مَرَاحلِ الْعُمْرِ بِسَهُوٍ، وَنَظَرَ مِنْ شَاهقٍ لَا هُوَ يَسْتَطِيْعُ النُّزُوْلَ إلَى وَاقْعِهِ السَّابقِ، ولا هُوَ بمقدورهِ الْمُوَاصَلَةَ والسَّيْرَ علَى دَرْبِهِ الْحَالِي الَّذي هُوَ عَلَيْهِ الآنَ.
راجَعَ نَادِمٌ شَرِيْطَ ذِكْرَيَاتِهِ، وتَوَقَفَ عِنْدَ مَحَطَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، كَي يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَوَاضِعِ خَللٍ وَقَعَ هُنَا أو هُنَاكَ.
اسْتَشْعَرَ كَمَالٌ مَا بِصَاحِبِهِ مِنْ حِيْرةٍ وتَذَبْذُبٍ، وَأوَعَزَ لصديقهمْ الْمُقربِ أبي سميحٍ بأنْ يتكلمَ بِبَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَّهَا تُسَكِّنُ مِنْ رَوْعِ وِئَامٍ.
انْتَهَزَ أبو سَمِيحٍ الْفُرْصَةَ لِيَصُبَّ بَعْضَ الْكلماتِ الْمُطَمْئِنَةِ لِوئامٍ، جَعَلَ يَرَبِتُ بِيَدِهِ عَلَى جَنْبِهِ لِيُسَكِّنَ مِنْ رَوعهِ؛ لَا عَلَيْكَ ألَيْسَ بَيْنَكَ يا وِئام وبَيْنَ رَبِكَ أنتَ عَلَى خَيْرٍ؟ فإِنْ حَسُنَتْ عَلَاقَتُكَ يا عزيزي بِرَبكَ حَسُنَتْ عَلَاقَةُ النَّاسِ بِكَ.
رَدَّ عَلَيْهِ وِئَامٌ بِقَوْلِهِ: أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللهُ.
أرْدَفَ أبو سَمِيْحٍ: أُسُّ بِنَائكَ مَتِيْنٌ، وَنَظْمُ رِتَابَتَهُ قَوِيْمٌ، إذًا لَا يَهُمْكَ شَيْئًا فِيْ هَذِهِ الدُّنْيَا.
نَزَلَتْ كَلِمَاتُ أبي سَمِيْحٍ كَالبَرَدِ عَلَى قَلْبِ وِئَامٍ.
اسْتَدْرَكَ كَمَالٌ وَقَاطَعَ حَدِيْثَ أصْحَابِهِ بِقَوْلِهِ: لَحْظَةً يَا جَمَاعةَ الْخَيْرِ! تَذَكَرْتُ أَنَّ علينا الذَّهابَ لزيارةِ الأخِ صَالِحٍ فَهُوَ يُقِيْمُ أمسيةً ثقافيةً في مَجْلِسِهِ يَحْضُرُهَا لَفِيْفٌ مِنْ أصْحَابِ الْفِكْرِ والأدَبِ، وأضَافَ هِيَ فِرْصَةٌ لمُوَاكَبَةِ كُلِّ مَا هُوَ جَدِيْدٌ ونَافِعٌ.
أَيَّدَ أبو سَمِيْحٍ كَلَامَ صَاحِبِهِ كَمَالٍ بِقَوْلِهِ: فَعْلًا هِيَ فِرْصَةٌ جَيْدَةٌ لَنَا كَمُتَقَاعِدِيْنَ فِيْ أنْ يَكُونَ لَنَا بَرَامِجُ هَادِفَةٌ تُنمِّي فِيْنَا الْمزِيْدَ مِنْ التَّنْمِيَةِ الْفَكْرِيْةِ والتَّوَجْهَات والطَّاقَاتِ الَّتي غَيَّبَهَا انْشِغَالُنَا الدَّائمُ بأعباءِ الْعَمَلِ وتَبِعَاتِهِ، الْوقتُ كَانَ يَمْلِكُنَا والآنَ نحنُ نَمْلِكُهُ ونَتَحَكَّمُ فِيْهِ.
لنْ ولَمْ يركنوا إلَى أنْ يُصْبِحُوا وَصْفَ فَضْلَةٍ فِيْ مُجْتَمَعِهِمْ بِمُجَرَدِ إحَالَتِهِمْ للتَّقَاعُدِ، دَوْرُهُمْ مُسْتَمُرٌ وعَطَاؤهُمْ دَائِمٌ وعَزِيْمَتُهُمْ لَا تَتَوَقَفُ ولَا يَحِدُّهَا حَدٌّ، ستبدأ مِنْ عِنْدِهِمْ جَوْلَاتٌ جَدِيْدَةٌ ومَرَاحِلُ نَاهِضَةٌ، فمَنْ قَالَ إنَّ التَّقَاعُدَ هِيَ نهايةُ الْحَيَاةِ والْخُمُوْلَ والرُّكُوْنَ للْكَسلِ والتَّمَحْوَرَ حَوْلَ الذَّاتِ.
مَاهِيَ إلَا صَفْحَةٌ مِنْ صَفَحَاتِ الْعُمْرِ انطوتْ سَتَتْبَعُهَا صَفَحَاتٌ جَدِيْدَةٌ وَلنْ تَنْقَطِعَ الْحَيَاةُ بِانْتِهَاءِ أحَدِهُمْ.
هَكَذَا تَمْضِيْ الْحَيَاةُ بِحُلْوِهَا ومُرِّهَا وبِعَزِيْمَةٍ وإصْرَارٍ لَا يَنْضُبُ.
سطَّرَ أصدقاءُ الدَّرْبِ ورُفَقَاءُ الصَّلَاحِ دُرُوْبًا مُضِيْئَةً، تُنِيْرُ لَهُمْ ولِمَنْ حَوْلَهِمْ مَيَادِيْنَ حَيَاةٍ تَزْخَرُ بِوَفْرٍ مِنْ الإنْتَاجِيِّةِ والْخَيْرِ الْعَمِيْمِ.