إلا.. هذا..!!
يروي مستشار الملك المغربي الحسن الثاني عبد الوهاب أبوطالب..، أنه قبل مجزرة قصر الصخيرات المعروفة تيقظ في نفسه ظنا سيئا نحو الوزير محمد اوفقير.. وكان هذا الظن يجمع في نفسه أسبابا لليقين به.. فطلب من الملك ساعة كاملة «ليبوح له بهذا الظن الذي يملك القدرة على تبريره بما يجعل الملك في أحسن الأحوال لا يسترسل في الثقة به» وحين التقى بالملك سأله مباشرة: إلى أي مدى يثق في الجنرال محمد اوفقير.!؟ فرد عليه الملك: إلا هذا..!!. أي أنه من الممكن أن يشك في كل من حوله إلا هذا..!. وبذا تقلص وقت اللقاء بالملك من ساعة إلى خمس دقائق.!.
وبعد سنة من اللقاء في عام 1971.. كتب الله للملك حياة كانت فرصة نجاته لا تزيد عن واحد من الألف بل عد واحدة من المواقف غير القابلة لأن تكرر نفسها، ذلك لأن اوفقير أرسل طائرتين عسكريتين للهجوم على طائرة الملك الخاصة ورميها بالرصاص بحيث تسقط بمن فيها في المحيط.. ويتولى هو السلطة!.
وبالفعل أصيبت طائرة الملك بعدة طلقات نارية بلغت الأرواح الحناجر فيكفي رصاصة واحدة تصل إلى مخزن الوقود ليتحول الملك وكل من معه من النساء والأطفال إلى بقايا عظام محترقة، في لطف خفي من الله تعالى أخبر طيار الملك محمد فائق المهاجمين، أن الملك قد قتل، وإن الطائرة فيها نساء وأطفال وموظفين لا ذنب لهم..!. وبذا سمح له بالهبوط.. ولأن هبوط الملك للمطار لم يكن ضمن خطة الانقلاب العسكري.. فقد وصل الملك إلى قصره وتم القبض على اوفقير..وتم إعدامه مع شركائه في الانقلاب..!.
إن هذا الموت الذي لامس كل خلية من خلايا الملك، وشد كل عصب من أعصابه، جعله لا يثق في أحد إلا بحذر شديد وتحول إيمانه في الرجال ظنا لا يتبدل بغيره..!.
وحين هرب قصي وعدي أبناء طاغية العراق صدام حسين من قصريهما.. اختارا دون تردد «الصديق الحقيقي الوفي» لأبيهما، وبمشقة بالغة، وبعد محاولات عسيرة وصلا إليه.. فما لبث حتى جاء بالخراف المشوية وما لذ وطاب من الطعام والشراب وقاسمهما أنه لهما ولأبيهما من المخلصين، وأنهما في ضيافته وأمانه وحراسته، ولو كلفه هذا حياته وأرواح أولاده..!.
وفي اليوم الثالث أخرج زوجتيه وأولاده من القصر، ثم سلمهما إلى الجيش الأمريكي مقابل خمسة عشر مليون دولار قبضها عدا ونقدا.!. تم قتلهما حيث لا سبيل للفرار حين خان الأمين وغدر الصديق الأوفى..!. كان صدام يتوقع خيانة الجميع إلا هذا..!. وقد أخبرهما بهذا مرارا!!.
بعد سنوات طويلة شاقة صنع جعفر البرمكي مملكة هارون الرشيد التي لا تغيب عنها الشمس وكان في الثامنة عشرة من عمره، لا يعي من مخاطرها القاتلة، ولا يعرف شيئا عن أسباب قوتها وضعفها..!.
شعر إبراهيم ابن جعفر البرمكي بالخوف والقلق.. من سواقي السم، وخواطف الرؤوس غدرا وغيلة..! فقال لأبيه هل بات الوقت مناسبا للبعد عن القصر..!. ولكن جعفر غضب واستخف بعقل ابنه.. وقال له: «إلا.. هارون». فهذا صنائع يده، ومملكته هي من تدبيره.. وهذا زمان مكافأته وأولاده من بعده إلى الأعقاب من ذريتهما..!
لم يتاح لأحد أن يخبرنا بعتمة الخيبة، ومرارتها، وطغيان الملح في فم جعفر، والرجفة الأخيرة لأطرافه، والعين التي تنظر ولا تبصر شيئا، غير قليل من صراخ نساءهم وأطفالهم، وأمهاتهم..!. فقد قرر هارون أن يقتل ال برمك جميعا في ليلة واحدة، وكلف ثلاثة آلاف جندي بالقتل كل من كان في جسده قطرة دم تنتسب إلى آل برمك.. وأن لا يستبقي منهم طفلا ولا امرأة.. ولا رضيعا أو كهلا كبيرا، حتى إن أم إبراهيم كانت مسنة فقدت بصرها، بعج بطنها بالسيف ثم قطع رأسها..!.
إن يقين جعفر بهارون كان أعمق من إيمانه بنفسه وكان يثق به أكثر من أبنائه، لقد كان متاحا له على الدوام أن ينتزع العرش منه بيسر وسهولة، إلا أنه ظن أن هارون الرشيد هو واحد من أولاده فعلا من غير صلبه..! وإن هارون لم يتوقف عن منادته بأبيه ومربيه..!. لقد جمع رأس جعفر مع أولاده من صلبه.. ودفنت أجسامهم دون رؤوسهم.. فقد رغب هارون التأكد من إتمام القتل دون أن يفلت منهم أحدا أو يبقى من أصلابهم أحدا حيا..!.
في حياتنا يؤلمنا من نحب، ويخذلنا من نثق، ويسلمنا من نؤمن بهم أكثر أنفسنا، ويفقدنا اليقين من آمنا أنهم يقيننا الثابت، وإيماننا المستقر، ليس كل كسر يمكن جبره، وليس لكل يقين خلف يستعاض به، وليس لكل فقد عوض عنه.
إن شئت أن تستبقي في قلبك يقينا.. فأجعله صرفا خالصا لربك، كل قريب مفارق وكل جزم في الناس يستبطن الظنون وكل رجاء في غير الله خذلان..
وكن في كل أحوالك شديد الحذر من هذا الاستثناء.. فربما قتلتك خيبة الرجاء.. وضياع المعروف في غير أهله...!.