الموقف من تاريخيّة التشريعات الدينيّة
المعروف في الفقه الإسلامي وعلى مستوى مناهج الاستنباط الشرعي أنّ الأصل والقاعدة في الأحكام والتشريعات الواردة في الكتاب والسنّة هو أن تؤخذ: أ كما هي في النصّ. ب وبنحو التأبيد، وأنّها متوجّهة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة، ما لم يقم دليل على اختصاص حكم شرعيٍّ هنا أو هناك بزمن معيّن ذهب وانقضى، أو أنّ خلف ظاهر الحكم الذي في النصّ حكماً آخر هو الأصل وأنّه يحمل صياغةً أخرى.
وينطلق الاجتهاد الشرعي والتنظير الأصولي والتقعيد الفقهي هنا من مجموعة من الأدلّة رغم أنّ هذا البحث لا يُفتح له في العادة باب مستقلّ في الدراسات الأصولية والشرعيّة بهذا العنوان، غير أنّ مراكمات معطيات كلاميّة وما تفيده بعض أدلّة قاعدة الاشتراك في الأحكام وغير ذلك، سمح للفقهاء بالوصول إلى هذه النتيجة «مبدأ موضوعيّة العناوين في الخطابات الشرعيّة ومبدأ نفي التاريخيّة» واعتبارها كالبديهيّة.
ولا يعني ذلك أنّ الفقهاء لم يوافقوا على أنّ بعض الأحكام خرجت عن قاعدة موضوعيّة العناوين أو قاعدة نفي التاريخيّة، بل يرون ذلك استثناءً وأنّه ما لم يقم دليل حاسم عندهم على هذا التحويل من الموضوعيّة إلى الطريقيّة ومن التأبيد إلى الزمنيّة، فإنّهم يتعاملون مع النصوص بالطريقة المدرسيّة المعهودة.
وفي مقابل هذا التوجّه المدرسي المشهور، ظهرت في العقود الأخيرة، بل في القرنين الأخيرين، بين المسلمين، تياراتٌ ورموز تتحدّث عن تاريخيّة التشريعات، وصار المجال للحديث عن التاريخيّة مفتوحاً بشكل أكبر، إلى أن وصل الأمر إلى حدّ القول بأصالة التاريخيّة، بمعنى أنّ الأصل في كلّ تشريع أنّه تاريخيٌّ إلا ما خرج بالدليل.
والكلام في هذا الموضوع طويل، وتعريف التاريخيّة التشريعيّة هو الآخر يعاني من التباسات. وما أعنيه بالتاريخيّة هنا أحد أشكال أربعة:
أ. إلغاء الحكم كلياً: كأن نقول بأنّ تعدّد الزوجات إنّما جاء نتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والشخصي الذي كانت عليه المرأة آنذاك، وأنّ الإسلام كان بصدد إلغاء التعدّد مطلقاً لكن بشكل تدريجي، فهو يقصد من الأربع عدم الزيادة لا تقرير جواز أكثر من الواحدة، وهذا يعني أنّه بمرور الأيام سوف يصبح الزواج غير متعدّد انسجاماً مع السياسة التدريجية المذكورة. أو نقول: إنّ الجهاد الابتدائي من تشريعات ما يسمّى بمرحلة التأسيس، لا الاستقرار، فليس له معنى اليوم؛ لذهاب مرحلة التأسيس كليّاً.
ب. تضييق الحكم وتقييده: كأن يقال بأنّ الروايات الواردة في الحثّ على الإكثار من النسل ليست مطلقةً، وإنما صدرت في ظرفٍ كان المسلمون فيه قلّةً قليلة يحتاجون للعديد، حيث كانت الكثرة العددية في الحروب مصدراً للقوّة والعزّة، أما وقد كثر المسلمون فلا معنى لهذه النصوص حينئذٍ، لاسيما وأنّ الكثرة العدديّة لم تعد هي المعيار النهائي في موازين القوى في الحروب، فإنّ القراءة التاريخية لهذه النصوص قيّدت استحباب الإكثار من النسل في حال حاجة المجتمع وقوّته إلى ذلك، فألغت في الحكم طبيعةَ الإطلاق.
ج. توسعة الحكم: ومثال ذلك أن يقال بأنّ أدلّة اشتراط الرؤية في ثبوت الهلال إنّما جاءت على أساس الوضع التاريخي آنذاك؛ إذ لم يكن هناك من سبيل لليقين بدخول الشهر إلا ذلك، وإنما العبرة باليقين، فلو تطوّرت العلوم لما ظلّت الرؤية السبيل الوحيد لإثبات الشهور، بل صار اليقين بدخول الشهر هو الشرط الحقيقي، فيُحمل شرط الرؤية على الاعتبار التاريخي، وهذا ما يوسّع وسائل إثبات الشهور من خصوص الرؤية إلى غير ذلك مما يعطي اليقين.
د. توسعة الحكم وتضييقه معاً: وهذا مثل القول بأنّ دليل تحريم الشطرنج لو قرأناه تاريخيّاً باعتبار ذلك الزمان، فسنتوصل إلى تقييد تحريم الشطرنج بحالة كونها آلة قمار، وفي الوقت عينه سوف نفهم منه التوسّع في التحريم من الشطرنج لمطلق آلات القمار، فنحن هنا أمام توسعة من جهة وتضييق من جهة ثانية.
من هنا لا تعني التاريخيّة حصراً إلغاءَ الأحكام، بل إعادة فهمها انطلاقاً من مقاربات سياقية زمنيّة، وهذا أمرٌ مهم جدّاً.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لا يوجد أصلٌ مرجعي اسمه أصالة الموضوعيّة ولا أصالة عدم التاريخيّة، كما لا يوجد أصلٌ اسمه أصالة التاريخيّة، بل بحث شبكة العلاقة بين التشريع والسياقات الزمنيّة يجب أن يكون جزءاً من كلّ عمليّة اجتهاديّة يقوم بها الفقيه في مختلف الأبواب والموضوعات، وعليه مراقبة الاحتمالات والنظر في القرائن والشواهد لصالح فرضيّة التاريخيّة أو عدمها، أو فرضيّة تخطّي الدلالة الحرفية وعدمها. فإذا ترجّح في نظره نتيجة شواهد أو تحليل موضوعي معيّن، لا نتيجة مزاج أو فوضى الاحتمالات أنّ الحكم الفلاني يؤخذ كما هو في ظاهر حرفيّة النصّ ولكُلّ الأزمنة، أمكن الإفتاء بذلك، وإذا ترجّح لديه من خلال معطيات وتحليلات، أنّ الحكم الفلاني هو حكمٌ مرتبط بسياقاته التاريخيّة، وأنّ علينا القول بانتهاء عصره أو بإعادة إنتاج فهمٍ جديد له يتخطّى حرفيّة النصّ والخطاب، لزمه الإفتاء على وفق ذلك، حيث تقوم لديه الحجّة، وأمّا إذا تأرجحت الأدلّة ورأى الفقيه شواهد ولو ناقصة للتاريخية وعدمها بحيث صعب عليه البتّ، ووقع الفقيه فيما أُطلقُ عليه دائماً «الشكّ الحقيقي»، بحيث كان احتمال التاريخيّة وعدمها متساوياً أو متقارباً عنده، فإنّ اللازم هنا هو الأخذ بالقدر المتيقّن، وهذا القدر المتيقّن يختلف من حالٍ لآخر، فمثلاً في مثال الشطرنج يكون القدر المتيقّن هو حرمة الشطرنج حالة كونها آلة قمار، لا مطلقاً ولا حرمة كلّ آلة قمار عبر دليل الشطرنج نفسه، وفي مثال رؤية الهلال يكون القدر المتيقّن هو الأخذ بالرؤية المصاحبة لليقين لا بمطلق الرؤية ولا بمطلق اليقين، فلا تُنتج التاريخيّة إلغاء الحكم، بل تُعيد إنتاجه، فانتبه.
من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد في الفقه المدرسي، هو عدم اعتقادي بأصالة الموضوعيّة في العناوين الواردة في الخطابات ولا بأصالة نفي التاريخيّة، بل إنّ هذا الذي توصّلتُ إليه يفرض على الفقيه مهمّات جديدة تقوم على رصد المقاربات التاريخيّة لإعادة فهم النص ودلالاته ومدياته.
وقد بحثتُ فيما يرتبط بموضوع «أصالة الموضوعيّة وأصالة نفي التاريخيّة» في مواضع عديدة من كتبي، وناقشتُ مجمل الأدلّة التي يعتمدها المشهور لتكريس منهجه في التعامل مع النصوص، وفقاً لأصالتَي: الموضوعيّة ونفي التاريخيّة، كما ناقشتُ أدلّة القائلين بأصالة التاريخيّة، وأشير هنا إلى بعض المواضع من كتبي، وفي كلّ موضع بحثت زاويةً من زوايا هذا الموضوع، وهي: «نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 713 747، الطبعة الأولى، 2006م؛ وحجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 740، الطبعة الأولى، 2011م؛ والاجتهاد المقاصدي والمناطي 2:147 188، الطبعة الأولى، 2020م».