آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

فكر الإمام الشيرازي.. هل يجد طريقه إلى المنهج الأكاديمي؟

زكريا أبو سرير

الإمام سماحة آية الله العظمى السيد محمد بن السيد مهدي الحسيني الشيرازي مواليد النجف الأشرف 13/8/ 1928م، والذي وافته المنيةُ في مدينة قم المقدسة عام 2001 م، يعد من المراجع الكبار والمعروفين للطائفة الشيعية الاثني عشرية من أسرة عريقة في العلم والجهاد، ينتهي نسبها الشريف إلى الإمام الحسين . كان مفكرًا متميزًا وكاتبًا قَلَّ نظيرُه في العصر الحديث، إذ بلغت كتاباته ومؤلفاته رقمًا صعب الوصول إليه في عالم التأليف، تجاوزت الألف كتاب في شتى أنواع الفكر، وقد حاز على ألقاب عديدة منها: الإمام والمجدد وسلطان المؤلفين، وكانت عبقريته فريدة من نوعها، وبدأتْ حاليًّا مجموعةٌ من الجامعات تدرس وتبحث في إنتاجه الفكري الغزير والمتنوع، كجامعة دمشق وجامعة بغداد، وقد ظهرت بعض إنتاجاته الفكرية على المسرح الأكاديمي في مستوى الدراسات العليا لبعض الباحثين، بمرتبة الدكتوراه، فضلًا عن بعض الباحثين من هنا وهناك.

لقد أبحر العالم الجليل سماحة آية الله العظمى المرجع الكبير الإمام السيد محمد بن السيد مهدي الحسيني الشيرازي رحمه الله في شتى العلوم المختلفة، حتى أكاد لا أبالغ إن قلت إنه كتب في غالب التخصصات العلمية بشقيها الديني والأكاديمي وبدرجة الكاتب المتخصص في المجال العلمي نفسه، فلم تكن كتاباته ترفًا فكريًّا. إنها بعيدة كل البعد عن التطفل والمزاحمة الفكرية. كانت فكرًا عميقًا وعلمًا يتخلله تعبئة في الفكر والمباحثة والدراسة والمطالعة والسهر ليلَ نهارَ، لاكتشاف المعرفة من كتاب الله والسنة المطهرة ومن بطون الكتب المختلفة قديمها وحديثها، حتى تبلورت عنده موسوعة من العلم والثقافة، وشكلت له مخزونًا معرفيًّا ضخمًا في غالب التخصصات العلمية التي قل نظيرها في عالم اليوم.

ولا يكتفي الإمام الشيرازي بالقراءة في أي مجال علمي، بل يخضعه للدراسة والبحث حتى يتمكن من استيعابه كاملًا، ولا يقف عند هذا الحد من الوصول إلى المعرفة بهذه الفكر أو ذاك فحسب، بل يقوم أيضًا بالكتابة عنه بقلم وفكر ديني إذا كان في المجال الديني، أو بقلم وفكر أكاديمي إذا كان في التخصص الأكاديمي، مع وضع الشروحات والتعليقات المهمة لتبسيطها، ليتمكن أي قارئ وعلى أي مستوى من الإدراك أن يفهم تلك المادة التي صعب تسهيلها للقراء حتى من منتجيها من أصحاب الدراسات والأبحاث العلمية ذات البعد العلمي التخصصي، لهذا نال لقب سلطان المؤلفين بكل جدارة وتمكن، وبالخصوص عندما تجاوزت مؤلفاته الفكرية ألف عنوان في شتى المجالات العلمية والثقافية.

ويصنف الإمام الشيرازي الراحل رحمه الله على أنه منتج علميًّا حوزويًّا دينيًّا، ومع ذلك تجاوز فكرة الحدود العلمية الحوزوية الدينية، وأخذ ينطلق في آفاق العلم والمعرفة في شتى المجالات، وهذا شأن عظيم أن يوفق فيه الإنسان لإنتاج هذه الموسوعة المعرفية العلمية التخصصية الواسعة، وأي علم نافع فهو في الأساس لخدمة البشرية عامة، أي أنه علم ينقل الحالة الإنسانية بشكل عام ويرتقي بها من الأسفل إلى الأعلى ومن الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى المعرفة، من دون النظر إلى خلفيته الفكرية.

وهنا نجد كثيرًا من الإنتاج الفكري لسماحة السيد الشيرازي غير المخصصة للمجال الحوزوي، بل هي لعامة الناس ولكنها ضائعة، أو هي بين أيدي غير متخصصة أو جهة غير متخصصة فيها، لهذا نرى منافع هذا الإنتاج العلمي الثقافي الضخم يصب كالقطارة على الساحة الثقافية، ولا تتفاجأ عندما نجد استغراب بعض المتخصصين الأكاديميين من حملة الدكتوراه حين لم يقرأ الفقه الاقتصاد أو الفقه السياسة أو الفقه البيئة أو الفقه العولمة أو الفقه الاجتماع أو الفقه الإدارة وغيرها من الكتابات المتنوعة في هذه المجالات العلمية التخصصية لسماحة المرجع الراحل، والسبب أن هذا الإنتاج الفكري لم يوضع في المنهج العلمي المخصص له، والذي يمكنه بالظفر بهذا الإنتاج العلمي الضخم على الساحة العلمية والثقافية العالمية، وهو المسلك العلمي الأكاديمي، ونعني به الجامعات الرسمية والكليات ومراكز البحث العلمي، إذ تعتبر هي الحاضنة والمخصصة لهذه العلوم الفكرية والقادرة على إبراز تلك النظريات للعالم بعد إخضاعها تحت المجهر العلمي والبحثي والدراسي الصحيح بآلياته المخصصة في مراكز الأبحاث التابع لهذا المسلك المنهجي العلمي الأكاديمي، والذي بدوره يختلف تمامًا عن المسلك والمنهجية العلمية الحوزوية الصرفة، فلها دراساتها عبر آلياتها المخصصة لها كذلك.

ولا أحد يعتقد أو يظن أن هذا الإهمال غير المقصود بطبيعة الحال سببه المؤلف، الإجابة: كلا؛ لأن المؤلف قام بواجبه الفكري وأكثر من ذلك، فضلًا عن كونه شخصية كثيرة الانشغالات ووقته ثمين للغاية، بل كانت الثانية الواحدة تمثل له الشيء الكثير وهي محسوبة عليه، باعتباره لم يكن مرجعًا دينيًّا متفرغًا فقط للأمور الشرعية أو الدراسات الإسلامية كبقية غالب المراجع الدينية الإسلامية أو ما عرف عنهم عبر التاريخ أنهم متفردون في العلوم الدينية إلا القليل منهم سواء على الصعيد الماضي أو الحاضر. كان عالمًا فريدًا في زمانه ومتميزًا في فكره واهتماماته الواسعة والمختلفة، بالعطاءات الفكرية الواسعة وبناء المراكز العلمية والدينية في الدول الإسلامية وأنحاء العالم، وهمه الرئيس بناء الشخصية الإسلامية والمجتمع الإسلامي ورفع مستواه الديني والثقافي والإنتاجي، علاوة على أنه يفكر في هداية ونمو وتطوير الإنسان بشكل عام، وهذا ما يضع الكثير في حالة استغراب وتساؤل مستمر؛ عندما تجد «أينما تولي وجهك» مركزًا علميًّا أو كيانًا دينيًا أو مشفًى صحيًّا أو اجتماعيًّا، أقيم وأُسس بأمر من الإمام الشيرازي مباشرة ومنذ فترة طويلة في تلك البقاع غير المتوقعة من العالم، لهذا عُرف رضوان الله تعالى عليه بالمرجعية المؤسساتية، وقد كشف عن طبيعة برنامجه اليومي، فهو كثير النشاط وقليل النوم، كثير المطالعة والكتابة والمباحثات العلمية والتدريس وخدمة الناس بغض النظر عن نوعيتهم وخلفياتهم الدينية والثقافية، بل كان يحرص على خدمة الناس وعلى قيمة الوقت بشكل لا يتوقعه أحد، فلا يضيِّع ثانية من وقته، بل يستثمرها إما في عبادة أو قراءة أو كتابة أو مباحثة أو ملاحقة ومتابعة مشروع خيري أو علمي، لهذا تجد إنتاجه المتنوع والضخم أمام أعين الجميع، فقد وُفق لذلك وفي عمر لم يتجاوز الخمسة والسبعين عامًا، وهو يعتبر عمرًا قصيرًا أمام إنجازاته الكبيرة.

وما أراه ضروريًّا على صعيد الحاضر والمستقبل، أنه يتوجب على المؤسسات الدينية والثقافية والفكرية التي تحمل على عاتقها مسؤولية التبشير بهذا العطاء الفكري الضخم، وأن عليها الدفع والسعي بكل جهدها وقوتها لإيصال هذه الثروة العلمية إلى حواضنها المخصصة لها، وهي الجامعات والكليات الأكاديمية، وهنا ينبغي الإشارة إلى أنه لا يمكن أن تضع علمًا حوزويًّا تخصصيًّا في المجال والمنهج الأكاديمي وتطالب بتطويره، فإن هذا لا يمكن؛ لأن المسلك العلمي لا يتوافق مع طبيعية ونوعية هذا المنهج، وبالتالي يكون الاختيار من الأساس خاطئًا، والحال تمامًا ينطبق على العلوم الأكاديمية، إذ ينبغي أن تصب وتزج في المكان غير المخصص لها.

والمسؤولية الأخرى تقع على تلاميذه وأتباعه والسالكين نهجه والمؤمنين بفكره النير، كما أحمِّل المسؤولية كاملة كذلك الحوزات والمراجع والعلماء قاطبة، للمساهمة في دفع هذه العلوم وهذا الإنتاج الفكري المميز نحو هذا الاتجاه والصرح العلمي المتمثل في الجامعات والكليات العلمية الأكاديمية، وهذا يحقق مكاسب للإسلام وللطائفة الشيعية خاصة وهو الهدف السامي، حين يبرز للعالم العربي والإسلامي والعالم قاطبة نموذج إسلامي مفكر استثنائي في الفكر والعلم والرؤية المستقبلية في قراءته لثقافة الماضي والحاضر بفكر منفتح يخدم البشرية عامة، وهذا بدوره يحدث إيقاعًا في ذهن القارئ، ويجعله يعيد قراءته عن الإسلام وأدبياته المشرقة، وبالخصوص من هم خارج الإطار الإسلامي أو من لم يقرأ الإسلام من قنواته الصحيحة والمعتبرة، وانحراف القارئ عن الوجهة الصحيحة أو المصدر المعبر يولد أفكارًا سوداوية في ذهن الباحث أو القارئ عن رسول الإسلام والديانة الإسلامية والمسلمين بشكل عام.

وهذا يجعلنا أمام مطالبة حقيقية على كل العاملين في المؤسسات والمراكز التابعة لسماحة المرجع الكبير الإمام الشيرازي بفرز إنتاجه الفكري المخصوص بالمنهجية الأكاديمية والعمل على إيصاله إلى هذه الحواضن المخصصة له، ذلك أنه كتب كثيرًا في المجال الأكاديمي التخصصي الصرف، وهنا سوف سأضع بين يدي القارئ الكريم بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر ككتاب الفقه: الاقتصاد، الاجتماع، السياسة، البيئة، وكتب كذلك: الصياغة الجديدة، نحو يقظة إسلامية، شورى الفقهاء، هذا هو النظام الإسلامي، هكذا الإسلام، المرأة في المجتمع المعاصر، ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، السبيل إلى إنهاض المسلمين، تحديد النسل فكرة غربية، هل للشعوب قيمة، حكومة محمد، حكومة علي، تقريب القرآن إلى الأذهان، الشباب وحكومة ألف مليون مسلم، نظرية اللاعنف في الإسلام، الحرية في الإسلام، الحضارات، السلم والسلام، التاريخ والفلسفة، الاقتصاد في الفلسفة وهي عبارة عن دراسة موجهة لأهل الاقتصاد، وهناك العديد من الكتب والمؤلفات التخصصية بعناوين مختلفة تكشف عن عمق فكر الإمام الشيرازي في العلم والمعرفة الواسعة في مجالات علمية عدة.

وما عرضت لبعض مؤلفاته ودراساته التخصصية إلا لأنها تحمل أبعادًا ومفاهيم علمية وإسلامية وحضارية ورؤى استشرافية مستقبلية تصحب معها نظريات اجتماعية علمية لم ترَ النور حسبما ينبغي، والسبب في ذلك أنها لم يتناولها المتخصصون في مراكزهم وحواضنهم العلمية والبحثية المخصصة لأجلها ومن ثَمَّ مناقشتها عالميًّا.

وآن الأوان لدفع هذه الدراسات والأبحاث العلمية المرموقة لتصل إلى حواضنها المخصصة لها لأجل الاستفادة منها في جميع الحقول العلمية المختلفة، ولا يكتفي بالجامعات والكليات العلمية الأكاديمية المحلية، بل ينبغي إيصال هذه الثروة العلمية الإسلامية والإنسانية إلى مشارق الأرض ومغاربها، لنكشف للعالم أن في المسلمين مازال هناك عباقرة من العلماء والمفكرين قل نظيرهم كمثال العالم الجليل المرجع الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمد السيد الشيرازي أعلى الله درجاته، ولكنهم مغيبون عن العالم.

في ختام هذه المقالة أود إيضاح أمرٍ مهم ولا أحبذ أن أخفيه عن عين وفكر القارئ الكريم؛ حتى لا أوصم بالانحياز أو التحزبية الفكرية التطرفية البغيضة والمتخلفة والرجعية الفكرية المقيتة بما يخص دعوتنا لاختيار المنهج الأكاديمي بعض نظريات سماحة الإمام الشيرازي، الذي سبَّب نوعًا من الغياب عن الساحة المعرفية والثقافية وجعل فكره يزحف بطريقة سلحفائية، والسبب لأنه لم يُختَر له المنهجية العلمية الصحيحة، وبالمناسبة أي المنهج أو المسلك الأكاديمي المخصص لدراسة ومباحثة هذه النظريات، وما نعتقده برغم إلحاحنا على مطلقها بأن ليس كل ما أنتجه الإمام الشيرازي من فكر عبر المؤلفات المختلفة والبحوث، كتبها طوال هذه السنين بأنها صحيحة مئة بالمئة، بل هي قابلة للنقاش والأخذ والعطاء والرفض، هو فكر واجتهد بكل ما أمكنه الله تعالى، وفي الأخير نحن ننظر له على أنه منتج علمي ثقافي بشري قابل لكل شيء، وهذا لا يتم معرفته واكتشافه إلا عندما يشق طريقه نحو المعمل الخاص به، وهي حواضنه العلمية المخصصة لهذا النوع من العلوم.

كما أنه قام عدد من الكتاب والباحثين المختصين بهذه العلوم، بالكتابة عن فكر الإمام الشيرازي الراحل، وقد نتج عن هذه البحوث كثير من المكاسب العلمية والثقافية على المشهد العلمي الأكاديمي والثقافي، بعضها كتب في حياته والأخرى بعد رحيله للرفيق الأعلى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:

الكاتب والباحث محمد غالب أيوب الشابندر، بعنوان ”النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي“.

الكاتب والباحث حسن آل حمادة، بعنوان ”الكتاب في فكر الإمام الشيرازي“

الكاتب والباحث والمؤلف سماحة الشيخ حسن الصفار، بعنوان ”الإمام الشيرازي ملامح الشخصية وسمات الفكر“.

الكاتب والباحث الدكتور موسى إياد محمود، بعنوان ”دراسات في فكر الإمام الشيرازي“.

حوار بحثي علمي يجمع مجموعة من العلماء والفضلاء تحت عنوان ”رحلة في آفاق الحياة والمعرفة“ يقع في مجلدين.

الكاتب والباحث سماحة الشيخ محمد سعيد المخزومي، بعنوان ”المجدد الشيرازي الثاني، تحول في التاريخ الإسلامي «مجلدان»“.

الباحث الدكتور خالد عليوي العرداوي، بعنوان ”الفكر السياسي عند السيد محمد الحسيني الشيرازي“.

أكتفي بهذا القدر من العرض لبعض من قدموا دراسات وأبحاث في فكر الإمام الشيرازي الراحل رحمه الله، وإذا أحب القارئ الكريم المزيد من البحث عما تم الكتابة عنه ما عليه إلا أن يضع إصبعه على أي محرك بحثي إلكتروني، وسوف يرى أمامه تسونامي من العلوم والأبحاث المختلفة للإمام الشيرازي سواء ألفها وكتبها بنفسه رحمه الله، أو عبر من تأثروا وآمنوا بفكره وآرائه وتوجهاته ومنهجه ومدرسته من قبِل عقول علمية عدة من مختلف التوجهات الفكرية والدينية.

ولهذا نتمنى من كل مجتمع واعٍ أن لا يبخس حق أحد من العلماء، سواء اتفق معه كليًّا أو جزئيًّا، وهي دعوة من باب الأمانة العلمية، ولكل عالم وباحث ومثقف أن يطرح رأي من يتفق معه في الرأي أو من يختلف معه، كما نؤكد على إحياء ذكرى وسيرة أمثال هؤلاء الأمجاد، لأنه بإحيائهم نجدد حاجتنا لولادة أمثالهم من العلماء والفضلاء، وكأنك تقوم بحقن عقول وذاكرة المجتمع بلقاح تذكيري بأهمية العلم وتكريم العلماء والمفكرين في حياة الأمة، وحاجة المجتمع المسلم الواعي الملحة للتركيز على إنتاج العلماء بشتى المجالات العلمية، ليصبح المجتمع يتمتع بذاكرة التنوع العلمي والثقافي في جميع التخصصات العلمية، وبهذا يمثل المجتمع له حماية قوية عبر تأسيسه أرضية فكرية وقوية ومتماسكة في مقابل مواجهة الجبهة الملوثة بجميع أنواع الجهل والتخلف الذي ينبثق منها بوسائل مختلفة.