آخر تحديث: 13 / 5 / 2024م - 12:00 ص

من تجليات رحلة العاشق نحو المعشوق: أم د علي العيثان أنموذجا

في مثل هذه الليلة المباركة، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، عرجت روح طاهرة إلى الرفيق الأعلى بعد حياة حافلة بأسمى معاني الطهارة والقداسة وصفاء النفس ونقاء الروح ولذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، والحب العميق والراسخ لأهل بيت العصمة .

في تلك الليلة، وعند حوالي الساعة الثامنة ليلا دخلت الحرم الحسيني المقدس، وعاشت لذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى في أجوائه، وزارت الإمام الحسين وأهل بيته، وعملت ما شاءت من دعاء وصلاة وتلاوة للقرآن، وغادرت الحرم عند الساعة الثانية ليلا، متجهة إلى مقر سكنها بالفندق.

بعدها بحوالي ساعتين ودعت هذه الحياة في رحلة إيمانية يغبطها كثير من المؤمنين على نهايتها.

فما أجملها من رحلة

وما آلمه من فراق لأحبتها.

إنها الحاجة المؤمنة الملاية فاطمة عبد الله العيثان، والدة الدكتور علي محمد العيثان.

كانت تعيش محاسبة النفس بقوة في سائر أوقات حياتها، وكان هذا تسديدا إلهيا لها، حيث باتت تنفر من مجالس الغيبة واللهو والحديث بالباطل.

عشقت القرآن الكريم وختمته على أيدي معلمات في تلك الفترة خلال فترة وجيزة، وكان لها ارتباط عميق بالقرآن الكريم، فهي لا تفارق تلاوته ليلا أو نهارا.

كانت تمتلك فطنة وبصيرة من الدرجة العالية، ويمكن رؤية انعكاسات ذلك في سيرتها الخاصة المشرقة.

كذلك كانت تمتلك تجربة تربوية عالية، ويمكن رؤية تجلياتها في تربيتها لأبنائها، حيث ربتهم على ما يتوافق مع زمانهم مع المحافظة على الثوابت الإيمانية، وقد جمع أبناؤها وبناتها بين صلاح الدين والحصول على الدرجات العلمية، فبينهم من هو طبيب، وآخرون نالوا الشهادات الجامعية، وقد حرصت على ترويتهم بمعين أهل البيت ، وغرست في أرواحهم التمسك بمنهجهم ، لذا نرى في أبنائها وبناتها صورا إيمانية مشرقة.

جسدت بحياتها أنموذجا رائعا للمؤمنة الموالية والأم المثالية.

عندما تكون في الحسينية، كانت إما قارئة للقرآن أو ملتذة بأحد الأذكار والأدعية والمناجاة، أو مستمعة لمجالس الذكر وفضائل أهل البيت وسيرتهم ومصابهم، أو قارئة لتلك السيرة والمصاب، فإذا انتهت من تلك الأعمال غادرت المكان، حيث كانت تكره الجلوس في تلك الأماكن دون أن تعمل شيئا مما ذكر.

أما داخل الروضات والعتبات المقدسة، فهي تعيش داخلها أسمى درجات الأدب والتعامل، وتكون فيها في درجات عالية من الذوبان في المناجاة مع الله، والانصهار في حب أهل بيت العصمة والابتداء بهديهم ومنهجهم.

صرفت شطرا من حياتها في المشاهد المقدسة في المدينة المنورة ومكة المكرمة ومشهد والمراقد المقدسة بالعراق ولا سيما بالنجف وكربلاء، حيث كانت تقضي أشهراً هناك، هذا فضلا عن اهتمامها بأداء العمرة الرجبية في مناسبات عدة.

وكان لوجودها في هذه الأماكن المقدسة تأثير قوي في شخصيتها، حيث كانت في سلوكها ومنهجها تجسيدا عمليا لهدي أولي العصمة .

كانت تقضي أياما كثيرة في العبادة، فهي تصوم كامل شهري رجب وشعبان، وليس ذلك فحسب، بل تبدأ الصوم من شهر جمادى.

كانت كثيرة الاهتمام بأداء كل النوافل والمستحبات.

كان بيتها يصدح بذكر أهل البيت في سيرتهم وآلامهم وأفراحهم، فهي لها قراءة حسينية في البيت طيلة شهري محرم وصفر، وكل مناسبات أهل البيت ، بل كانت تحيي مجالس عزاء للعلماء الكبار أمثال السيد الخوئي والكلبيكاني وآخرين، حيث كانت تقيم لهم مجالس عزاء طيلة ثلاثة أيام مع الإشارة فيه إلى عطائهم وسيرتهم العطرة.

لها نتاج شعري في أهل البيت ، وكذلك في بعض الأعلام العظام من علماء الطائفة.

ربت أجيالا من الخطيبات تشجيعا وتدريبا.

كان لها بيت في النجف، أسكنت فيه أحد سادة الحكيم، وقد كوفئت لاحقا بعد رحيلها على ذلك حيث دفنت في مقبرة سادة الحكيم وعلى مقربة من ضريح الإمام علي .

من أعمال ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء الذي روي أنّ الإمام زين العابدين كان يقول فيها من أول اللّيلة إلى آخرها:

”اللَّهُمَّ ارزُقني التَّجافي عَن دارِ الغُرورِ، وَالإنابَةَ إلى دارِ الخُلودِ وَالاستِعدادِ لِلمَوتِ قَبلَ حُلولِ الفَوتِ.“

لا يوجد لدينا شك أنها كررت هذا الدعاء على مقربة من سيد الشهداء في تلك الليلة المباركة، فحياتها كانت تجليات لمعنى التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، فرحلت إلى جوار ربها وهي في أهبة الاستعداد للموت، بعد رحلة إيمانية ناجحة ضد أهواء النفس ومغريات الحياة، وعلو في درجات التكامل.

وقد صلى على جثمانها سماحة العلامة السيد هاشم السلمان في حرم الإمام الحسين .

أحدث رحيلها هزة وجدانية امتدت لمساحة كبيرة، ولا سيما بين النساء التي كن يرينها سلوكا وضاءً يمشي على الأرض، فمساحة فقدها كانت كبيرة.

وكما كانت تحب مجاورة المعصومين في حياتها الدنيا، فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تظل بجوارهم في حياتها الأخروية.

وتظل سيرتها منهجا يقتدي به المؤمنون والمؤمنات في حياتهم.

رحمها الله رحمة الأبرار وأعلى درجاتها في جنان الخلد.

استشاري طب أطفال وحساسية