آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

عدسات الخباز المحدبة

أثير السادة *

سبينوزا والخباز كانا رفيقيي في أول الشهر الكريم، الأول فيلسوف مشغول بسؤال الله والطبيعة والحقيقة والأخلاق والثاني شاعر وباحث مهتم بالتفاصيل المهملة من ذاكرة الثقافة العربية والإسلامية، جمعهما الإصدار الرشيق لمحمد الخباز والذي حمل عنوان عدسات سبينوزا والصادر حديثا عن دار رواشن بالإمارات.

قلت رشيقا لأنه لا يتجاوز في عدد صفحاته 80 ورقة، لكنه في ذات الوقت من العيار الثقيل عمقا ومعرفة، ففيه يحاول الخباز سبر ماهية الأشياء والقبض على جوهر الأفكار التي قدمها الفيلسوف الهولندي في كتابة شعرية باذخة وشديدة الكثافة، شعر لا ينتمي للمخيلة ولا البلاغة بمعناها الصريح، بل إلى خلق إمكانيات التفكير والتأويل، فهو دائم الشحن لمفرداته بالدلالات التي تحاور أفكار سبينوزا تارة وتشرحها تارة أخرى.

نصوص بمثابة عدسات مكبرة تقترب من تجليات القلق لدى الفيلسوف ومثله لدى الشاعر، يبدأ بعدسة الخوف التي تحفز لدى الإنسان أحاسيس الخرافة والارتهان للخوارق وصناعة القرابين والآلهة، وكذلك عدسة التقوى التي تصبح بمثابة اللباس لجسد الفساد، مستدعيا رؤى فيلسوفنا الذي مارس النقد الديني عبر منهج عقلاني أطلق أسئلة الشك تجاه النصوص الدينية، فهاهو الخباز يستدعي مواقفه ضمن ”عدسة العبرانيين“ وهو يطلق السؤال: هل سيبتعد الرب عنكم إذا اقترب من الآخرين، ليستدرك في لغة موغلة بالتصوف: وحده الطفل يظن أن نهر الرب ينقص حين يشرب الآخرون معه.

من يقرأ إصدار الخباز عليه أن يراجع كتابات سبينوزا ليدرك طبيعة الاشتغال على الأفكار وعلى اللغة في ذات الوقت، فالنص هنا عذب ورقيق لا يشبه لغة الفلاسفة، غير أنه أمين لروح سبينوزا الذي رغم تكفيره من قبل المؤسسات الدينية ظل يؤمن بوجود علة لهذا الكون، هو إله متحد مع الطبيعة، ففي نص عدسة الطبيعة يحدثنا الخباز عن حب الرب والطبيعة وهو يقول: فحين تحب الرب/ستعرف كيف تحب الريح التي تدمر بيتك/ ذلك هو قانون الطبيعة/أن تحب الريح.

في النصف الثاني من الإصدار يختار الخباز أن يضع على عينه عدسة سبينوزا ويتأمل معها سيرته الذاتية، أسئلته وقلقه الخلاق، يهوديته وظنونه الطاردة ليقينياتها، محنته مع التفكير والتكفير، ليختم نصوصه بمناجاته عن الموت والوحدة، في مرثية بالغة الوجع وهو يقول: وحدها أفكاري هي التي ستحمل جنازتي، ويد الرب هي التي ستضمني.