آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

وقفات تأملية في لاءات الإمام علي التنويرية

عبد الله أمان

1. «لا ظَهير كالمَشُورة» …

يظهر جَليًا مِن الكلام المَسطور، والبلاغة الحاضرة في خُطب، وأَقوال، ومُكاتبات الإِمام أَبي الحسن، ، أَمانة القول الراقي المُهذَّب، وأَصالة بُعد النظر الصائِب المرتَّب، ونقاء الرؤية النقَية الثاقِبة، أَن يجتمع رَيع مُفردتي: الظهير، والمشورة، في صَدر عبارة شَائقة رَائقة، مُحكمة الصياغة، ورَائدة في حُسن دِقة ورِقة التعبير؛ ورائدة في حَصافة ونَجابة التنوير - مُصاغة بشفافية اختيارية، ومَحفوفة برَصانة انتقائية - مِن مَوزون أَتم كيل وافٍ مِن حُسن الكلِم المفيد المُكتمل، مُصاغ مِن أَجود نَفائس جَوف سَفَط الحكمة المُتروية، ومَلىء مِكيال تام، مِن وافر نصيب مُحاصصة البلاغة النصية الضافية… ليَفتَحا ويُفسِحا أَصالة وصَوابًا؛ ويُمهدا بتؤدة واتزان، بُعدًا تأَمليُا استشرافيًا، نحو إِنطلاق نصل سهم ”التأَمل، المُطلق المَارق؛ والتائه الغارق، صَوب قِمم عَنان سَماء عَطاء الإبداع الأَدبي الشامخ، واختراق - غير مَسبُوق -“ لاحترافية ” إِشراقة نتاج التصوير الفكري الطامح، والتصور الذهني الناضح، بأَريحية التدبير الفكري، وسَماحة التنوير الروحي الساطعين، لكلتي مَرامي، ومَقاصد، ومُبتغى المفردتين الند المتناظرتين المتجاذبتين، داخل سُدة مَقصورة مِنطادية سَامِقة، لعبارة إِخبارية اعتبارية واحدة؛ ليتلاءََم المعنى المُعلن الواضِح؛ وتتناغَم شفافية الدلالة الهادِفة، مَع عَميم نِتاج حَرَاك رَقيق ورَهيف مَبلغ نَمير فُرات فحواهما المتمازجين، في أَحضان جَوف بوتقة حُبلى، يَشع شَذاها الشائع الذائع، عَبقًا؛ ويَندى“ شَبقًا ”في عُرف أَسمى وأَجل مَعنى حَمِيم حَاضِن في هَالة صِهاء مَتن سِجل الطلاقة الفكرية الصائبة؛ ويَكتسي جَمالًا شَكليًا أَخاذًا، وَسط بْطون أَرشِيف صَفحات الذاكرة الخالدة؛ ويَنضح رَمزًا مَجازيًا مُتواريًا مُتوازيًا، بتوريد وتأسيس صَادِع مَاتِع، في حِينه، في مَنظور عمق خاصرة “جِدارية” مُثيرة مِن مَنظومة فُسَيفِساء نَسيج رائع سَاطع؛ يَهدي إِلى، مُراد وقفة، القبول والتسليم؛ ويُعزز تشييد مُمهَّد مُوطَّد لوازع ذاتي لنهضة جاذبة مُثلى؛ ويَقود إِلى دافع مُتجدد لأْسطورة رِفعَةٍ ناجحةٍ راجحةٍ، تزهو في حَضرة مَقام صَرح ضَفتي المُوافقة والمُطابقة، القابع استحقاقًا وخِفة، في قُنَّة جَوهر ومَخبر فن صِناعة الصياغة البلاغية؛ والماثل أثرها الظاهر وَداعة، في صَميم مُخرجات“ فَنيات ومَسكُوكَات ”نهج الفصاحة النصية الخطابية… وكُلنا يَعرف ويُدرك مَدى قرابة آصِرة الارتباط النصي الفكري، القائم الوثيق، على حدٍ سواء، بين عَون المَشورة الرافدة، واقتناص بُعد التنوير التوسعي المُدرِك؛ لعُمق زوايا تأسيس“ وفبركة" فِكرة اعتبارية ناضجة؛ وتطويع مُصاحب لآفاق رؤية حِسية توافقية استشرافية، تنتظران، بحزم ورسم، للحظة قَادَمة، وهُنيهة مُداهِمة، شُيوع الاعتدال الفكري المُمنهح، وذُيوع التطبيق العملي الأَمثل، المسدَّدين في صِهاء مَسارح مُتسع فَسَاحة مَيادين مَسيرة أَدبية ثاقبة ظافرة، لا يَخذلها أَمرٌ طَارىء عَارض؛ أَو يُعوِّقها عَرضٌ مَانع صَارف!

2. «ولا غِنى كالعقل، ولا فَقر كالجهل» … وهاتان حَقيقتان ذَهبيتان مُتناظرتان، مُسلَّم بصدقهما، في لُفافَة مُقابلتهما البديعية الأَدبية؛ ومُزجاتان برمَّتهما الضافية، مِن أعلى قِمة هَرم شفافية اكتمال مَد البصر؛ ومُهداتان، بأَريحية، مِن أَعلى رأس صَفاء ظجَوهر البصيرة اليقظة؛ لما ينطوي عليه وِجدان داخلة النفس البشرية السوِيَّة المُعتدلة؛ لتقبله بخفة؛ وتبجِّله بدَماثة، وَشَائج الفكر المُستنير مِن - مَزايا وزَوايا وحَنايا - تلك الخُلاصة الصادِقَة المُصدَّقَة، بأَصل ونصل أَرُومة خَامتها النصية البِكر، دُون أَدنى مُواربة تذكر، أَو أَحقر مُراوغة تحتضر، أَو أَقل تَدليس مُستصغر!… فغِنى مَعالي النفس البشرية الشريفة، وافتِقار مُكتسباتها الماجِدة النفيسة، المشار إِليهما بالبنان الصريح الواضح، بمعية رِدء صِنويهما الحَاضرين المَاثلين: العقل والجهل، في عبارة أَمير المؤمنين، هما - في جوهر حقيقة الأَمر - تَوأمان ناهضان، مُترافقان؛ ومُنزلقان مِن حُضن رَحِم واحد، إِن ذُكر أَحدهما مَرة، تَبادر إِلى ناصية الذهن حُضور التِّرب الرديف الآخر تِباعًا، كَمثل ترافُق عَقارب الساعة، داخل إِطار قُبتها الشاخصة المقروءة!

3. «ولا مِيراث كالأَدب» … ولعل الأدب في كَفة مِيزان أَمير المؤمنين، وبليغ الخطباء والمتكلمين، ونِحرِير الأُدباء المتأَملين، ، هي سِلسلة ذَهبية رائدة، ومُنحنى مُتوافق مُتجانس؛ مُنحدر مِن قِمم وذُرى المَزايا الشامخة؛ ومُنبثق مِن سِلال أَسنِمة السجايا الناصعة، لأَسمى العَزائم، وأَتم هِمم المَحاسِن الأَخلاقية الرفيعة… حيث يَتجلى وينكشف سُؤددها الإِنساني الجم؛ وتتكاثر وتتناثر مَكارِمها الواهبة الرافدة؛ ويَتنامى شَرفها المُتأَنق المُتأَلق، مَع مَد سُمو صَفاء الروح الساطع؛ حيث يتلاقى بُزُوغ شُعاعها المُتوَشح شَوقًا، بخُيلاء زَهوه الماتع، مع جَذب نَقاء البصيرة، ويتصاهرا الإِثنان - حَسبًا ونَسبًا، مَع مَبلع كَرم المَحتِد الخالص؛ ويَتناغما ”سِيرة ومَسيرة“ مع خُلود أَريج أَنفاس الذات المُؤمِنة؛ ويذوبا صَبابةً وحنينًا في دَوامة نبالة أَرُومة المنبع الصافي… إِيمانًا عَارفًا صَادقًا، ويقينًا مُعتقدًا مُصدِّقًا بوجود الله، الواحد الأَحد، الفرد الصمد… والميراث المضمون رَيعه، في شاهد نص الخطاب الأَميري المنظور، يَندى شَرقًا وعِزةُ، في مُتسع ثرى ضَفة تلك العبارة الركيزة الوجيزة، الآنفة الذكر، هو ضِياء يََطول شُعاعه؛ ومِنوال يَزداد نَماؤه؛ ورِفد يَندى عَطاؤه، قلبًا وقالبًا، بعد أَن تَتلاشى، وتَفنى، وتَنعدم، وتَتقزم جُملة أُصول ومُقتنيات كل رؤوس مَتاع وبَقايا المُمتلكات المادية والشخصية؛ لتصبح حُطامًا قَحِلًا مَحَلًا، لا حَياة ساكنة فيه تُرتجى بَركتها، ولا حَرَاكًا قائمًا، في أَصله، يُنتظر خَيره! ولعل مَا يَسند ويعزز مِصداقية هذا القول الأدبي الرفيع، ويُؤيد مُصاهرة، ومُطابقة ذلك النهج الأَصيل الجليل، قَولًا وفِعلًا، ومَسلكًا، جُملة رِزم وحُزم الشواهد المَحسوسة، وتكرار مِدرار لذِكر اللاءات المُتأَملة التنويرية، وزَج رَصيد الحقائق الحية الدامغة؛ والنابتة، عَرضْا وطُولًا، في مَنبت ثنايا عَضُد نظم القصيدة الأَدبية العَصماء، لأَمير البلاغة، وسيد الخُطباء المُفوَّهين، وإِمام صَفوة المُتقين، مِن الأولين والآخرين، علي بن أَبي طالب - - والتي يَصدَح ويَترنَّم في بيت مَطلعها المتيقظ: «النفس تبكي على الدنيا وقد عَلِمت… أَنَّ السعادةَ فيها تركُ مَا فيها» … تلك التجربة الروحية السامية الصائبة؛ ورِحلة المسيرة الجهادية الرائدة، نراها، ويراها الناقدون المتأَملون مُتجسدتين مَحسوستين في دِفئ أَحضان مُلاءة ”أَدبية“ ترنو - فَخرُا وزَهوًا - بحُسن رشاقة لاءاتها الرباعية، فوق مَنابِر أَدبية رصينة، في حلقات مُنتديات ومَحافل لغة الضاد الحية المتجددة؛ فلا تنجرف بفصاحتها، مُهرولة تباعًا، إلى مُنزلق نَزَقِ المُواربة؛ أَو تنصرف ببلاغتها، مُنحدرة جُزافًا، إلى هَاوية مَهَبِّ ريح طَيش المُخادعة... فمَا أروع وأَذكى وأَسمى القول! ومَا أَعز وأَشرف وأَجل مَن قائل!