آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

الغربة والشعور بوحشة الزمان والمكان

حسين الدبيسي

السلام على أبي الحسن إمام المتقين الأبرار السلام على الشهيد الشاهد السلام على الأمة القانت.

تذكر كتب السير والتاريخ جوانب من الحالة النفسية التي كان عليها الإمام علي في الأيام الأخيرة من حياته. فلو صحت هذه المرويات - وليس كلها صحيحًا ولكن قسم لا بأس به منها صحيح - فيمكن من خلالها أن نرى القلق والشعور بالوحشة عند الإمام علي آنذاك. فهو يشعر بأجواء معادية له وأن القتل يطارده من كل جانب ولم يعد يشعر بطمأنينة لما حوله وأنه أصبح يخشى على نفسه القتل في أي لحظة. فالمتربصون به كثر ولم يعد يشعر بالأمان في الكوفة، فقد تحولت المدينة التي استقبلته بالأهازيج والأهاليل قبل بضع سنوات إلى مدينة تتآمر به لتقتله وتتربص به غائلة السوء. وقد وصف علي نفسه هذه الحالة قائلا ”اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملّوني“. فلم تعد العلاقة بين الجانبين ودية. وتصف الروايات حالة القلق التي انتابته في مساء اليوم الثامن عشر وليلة التاسع عشر. تقول بعض الروايات:

وجلس للتعقيب ثم نامت عيناه وهو جالس، فانتبه من نومته، فقال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني، وأريد أن أقصها عليكم.

قالوا: ما هي؟

قال: إني رأيت الساعة رسول الله ﷺ في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان، فهلمّ إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.

قالت: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.

قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذِبت ولا كذّبت، وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود إلى مصلاّه ويقول: اللهم بارك لي في الموت ويكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

هذه الرواية ترسم الصورة القلقة بشكل واضح. فالرؤيا نفسها هي تعبير عما يعتمل في النفس من شعور مسيطر لا يفارق صاحبه حتى في النوم بل لا يدعه يهنأ بنومه فسرعان ما تغفو عينه إلا وطل عليه من خلال الرؤيا. ناهيك عن ما أعقبها من سلوك من خلال إخبار أهله بها وخروجه ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وإكثاره من قول إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كل هذه الصور التي توردها الرواية هي صور لحالة القلق. فالنظر إلى السماء وكواكبها يبين مدى عمق القلق، فلا السماء ولا كواكبها لها دخل في مصير الإنسان.

وتستمر الروايات في نقل جوانب أخرى لحالة القلق. روى الشريف الرضي عليه الرحمة في كتاب خصائص الأئمة " قال: سهر علي في الليلة التي ضرب في صبيحتها، فقال: إني مقتول لو قد أصبحت فجاء مؤذنه بالصلاة فمشى قليلا فقالت ابنته زينب يا أمير المؤمنين مر جعدة يصلي بالناس فقال: لا مفر من الأجل ثم خرج.

وفي حديث آخر قال: جعل يعاود مضجعه فلا ينام، ثم يعاود النظر في السماء، ويقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت، فلما طلع الفجر شد إزاره وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

وإن حل بواديكا"

بل إن القلق انتقل منه إلى أفراد عائلته وجاوز القلق الحالة النفسية إلى التعبير العلني. بل إن قلق الإمام لم يكن خافيًا على من يحيط به فهذه ابنته أم كلثوم تقول: فلما رأيت ما عرض لأبي من القلق والاضطراب لم يأخذني النوم، وقلت: يا أبت، لم حرمت على نفسك النوم في هذه الليلة، ولم لا تستريح يا أبت؟.

فقال: يا بنية، إني كثيرا ما قتلت الشجعان وقاسيت الأهوال العظيمة ولم يحصل لي رعب واضطراب مثل هذه الليلة ثم قال: إنا الله وإنا إليه راجعون، فقلت: يا أب، لم أراك تنعى إلينا نفسك في هذه الليلة؟

فقال: يا بنية، قد قرب الأجل، وانقطع الأمل.

ثم غفا قليلا ثم انتبه وقال: يا بنية، إذا قرب وقت الأذان فأخبريني، ثم جعل يتضرع ويدعو، فلما قرب وقت الصلاة قدمت إليه وضوءا، فقام وجدد وضوءه ولبس ثيابه وتوجه إلى المسجد، فلما صار في صحن الدار، وكان في الدار إوز فلما رأينه رفرفن بأجنحتهن وصحن في وجهه، فقال: لا إله إلا الله، صوائح يلحقها نوائح.

فلما وصل إلى الباب وهو مغلوق فعالجه فانحل ميزره، فشده وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت إذا حل بناديكا

ولا تغتر بالدهر وان كان يواتيكا

كما أضحكك الدهر ذاك الدهر يبكيكا

ثم قال: اللهم بارك لي في الموت، وبارك لي في لقائك، قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه، فلما سمعت قوله: قلت: واغوثاه يا أباه، ما لي أراك تنعى نفسك مثل هذه الليلة أن لا نراك أبدا، فقال: يا بنية، إنها دلالات وعلامات الموت يتبع بعضها بعضا، ثم فتح الباب وخرج.

هذه الرواية تنقل صورة القلق الذي يرى في كل ما حوله أنه يعيش معه نفس الأجواء، فالإوز أيضًا قلق عليه. بل إن القلق أثر على سلوكه فهو عند خروجه من الباب يتعلق مئزره بالباب فينحل المئزر.

قد يتساءل البعض فيقول هل من المعقول أن الإمام علي يقلق؟!!!

الحقيقة أن القلق والخوف من الطبيعة البشرية وهو إذا حصل ضمن اعتبارات معينة فهو أمر طبيعي ولا يعد عيبًا ولا نقصًا.

فالنبي موسى خاف القتل وخرج من مدينته خائفا يترقب. وخاف مرة أخرى حين رأى فجأة عصاه تتحول إلى ثعبان عظيم لدرجة أنه ابتعد مسرعًا ولم يلتف إلى الخلف حتى ناداه الله أقبل ولا تخف. وكذلك النبي إبراهيم أصابه الخوف حين امتنع ضيوفه عن الأكل من طعامه. والنبي محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام حين هاجر من مكة التجأ إلى الغار، وحين أقدم على الزواج من زينب خشي أن تناله الناس بألسنتهم.

وشبيه لما مر به الإمام علي من قلق حصل لدى الإمام الحسين كما تذكر الروايات أنه في طريقه إلى العراق هومت عينه قليلًا فانتبه وحوقل تقول الرواية «لما جاء وقت الظهيرة وضع رأسه فَرَقَد، ثمّ استيقظ، فقال لابنه عليّ الأكبر ما رآه في منامه: ”خفقت برأسي خفقة، فعنّ لي فارس يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا“.

فقال له ابنه عليّ الأكبر: يا أبه فلسنا على الحقّ؟

فقال له الإمام : ”بلى يا بني، والله الذي إليه مرجع العباد“.

فقال له عليّ الأكبر: يا أبه إذاً لا نبالي بالموت»

فالنفس البشرية السوية لا تستسيغ العيش النكد والظروف المعادية لذا ينتابها القلق كشعور طبيعي.

السؤال الآخر لماذا انقلبت الأوضاع في الكوفة إلى أجواء اجتماعية معادية؟!!!

فاللعين ابن ملجم لم يكن يثمل نفسه فقط بل كانت شريحة كبيرة من أهل الكوفة رافضة للإمام علي ولحكمه وتسعى في زواله وإسقاطه. وقد تعززت هذه الفئة بعد حصول ما يلي:

1 - خلو الساحة من الرجال الأقوياء الذين كانوا إلى جانب الإمام كعمار ومالك الأشتر

2 - سقوط مصر في يد معاوية

3 - معركة النهروان

فهذه العناصر الثلاثة ساهمت في إضعاف موقف الإمام .

كما أن حلمه وتواضعه فهمه السفهاء على أنه ضعف شخصية

فالكوفة انقلبت على علي لأنها من البداية كانت ليست راغبة فيه لنفسه بل لحاجة في نفس يعقوب، واستمرت في تنكرها لعلي ولرفضها له ومحاربته حتى بعد استشهاده وتجلى ذلك في أوضح صوره في العاشر من محرم سنة 61.