آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

المفكرون العرب وظاهرة القراءة المنفلتة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا يمكن إغفال الصلة الوثيقة بين حياة الكاتب المفكر ومواقفه والأحداث المحيطة بهذه الحياة السياسية منها والاجتماعية أو الثقافية والتاريخية، وبين آرائه الفكرية ورؤيته التي يحاول تمثلها في منجزه الكتابي أو النصي.

بعبارة جد بسيطة: ثمة موقف أيديولوجي ثاو خلف كل نص ينجزه أي كاتب أو مفكر أو فيلسوف، قد يكون فاقع الظهور، أو يكون مضمرا لا يكاد يبين.

هذا الموقف هو تعبير مباشر عن تلك الصلة، وهو تعبير أيضا عن الخيارات والدوافع والرؤى التي تجبره نتائج تلك الصلة على تبنيها في مواقفه الفكرية النظرية، أكان واعيا بها أم كانت مخفية في لا وعيه.

لذلك من الضرورة بمكان الوقوف على مضمرات الموقف الأيديولوجي، وعلى سماته ومؤثراته التي توجه النص وكاتبه، لأنه من غير ذلك، يستحيل فهم الكاتب فهما موضوعيا وفهم واقعه العملي والظرف التاريخي الذي يرتبط به.

وهنا أطرح التساؤل التالي: ما مناسبة الكلام في هذا الموضوع؟

قد توحي هذه المقدمة البسيطة لدى القارئ أنني أسعى للتركيز على إشكالية فكرية منهجية، طالما قاربها المفكرون والفلاسفة العرب المعاصرون بشيء من التفصيل والاهتمام، منذ أن أدركوا مسألة التأخر الحضاري عن الغرب، أوائل عصر النهضة، والأزمة التي واكبتها على الصعيد السياسي والثقافي والعلمي والاجتماعي. فكان مثل هذا الوضع الملتبس في العلاقة مع الغرب الحضاري والسياسي سببا يضاف إلى أسباب أخرى لا محل لذكرها الآن، في كون أغلب المشاريع الفكرية الفلسفية العربية تنطلق من أرضية أيديولوجية، إما لكون صاحب المشروع له انتماءات سياسية فكرية أو حزبية، يؤمن بها، أو على الأقل، إذا كان مفكرا كبيرا، يؤمن بروح قيمها من العمق، وإما لكونه يعبر عن انتماءات فوق سياسية: طائفية أو عقائدية أو عرقية قومية يكون لها حضور طاغ في حياته وحياة محيطه السياسي والاجتماعي.. إلخ، بحيث غالبا ما تبنى هذه الأرضية على أفكار فلسفية كبرى سواء كانت تنتمي للحداثة الغربية عند البعض أو تنتمي للتراث عند البعض الآخر، أو في التوفيق والمواءمة بينهما عند غيرهما من المفكرين والفلاسفة، والأمثلة كثيرة لا تحصى ضمن هذا الإطار.

لكن جميع هؤلاء كان هدفهم البحث عن حلول ناجعة للإجابة عن سؤال التأخر الحضاري عن الغرب، يوحدهم حوله الظرف السياسي الذي كانت تعيشه المجتمعات العربية بعد خروجها من الاستعمار. ويفرقهم التباين في التوجهات والمرجعيات الثقافية والفكرية.

أعود إلى أساس الفكرة الثاوية خلف الحديث الذي تطرقنا إليه كمقدمة عن حال المفكر العربي في علاقته بنصه من جهة، وبالظروف المحيطة به من جهة أخرى، وهي ترتبط بالدرجة الأولى بالظاهرة التالية:

ويمكن أن أطلق عليها ظاهرة القراءة المنفلتة من كل شرط أو قيد، وأكثر ما تجد تعابيرها، عند الكثير من شباب اليوم الذين عادة ما تكون أغلب مرجعياتهم هي المعلومات الجاهزة المطروحة في السوشيال ميديا، المنزوعة من سياقاتها سواء تلك التي تخص تاريخ الأفكار أو تاريخ كاتبها، أو منزوعة من مصادرها الكتابية.

قد تكون هذه المعلومات مقولات عابرة يتم الاستشهاد بها في سياق عابر في مواقع التواصل، أو قد تكون في سياق مقالات أو حتى بحوث غير محكمة، فالمواقع تضخ ولا تثريب على مثل هذا الضخ، ولا عندي موقف مسبق منها. فالجانب السلبي كما أراه أنها تخلق حالة في القراءة عند هؤلاء، أقل ما يقال عنها انفصالية، لا تعي أن القراءة الإبداعية، بالخصوص ما يتعلق منها بالأفكار، هي نوع من التأويل، إذا ما أراد القارئ أن يكون متميزا ومبدعا، مشروطة ومقيدة كما قلنا في مبتدئ المقال بالوقوف على تلك الصلة الوثيقة بين الكاتب أو المفكر وحياته من جهة وبين نصه من جهة أخرى. هي نوع من القراءة الرأسية التي تحفر، حتى تصل إلى قناعة، أن لا شيء خلف الحفر. عدا ذلك، وهو ما يخيفني، أن تكون مثل هذه القراءات مسطحة، مجرد استراحة، بعيدة عن التراكم المعرفي التي تصنعها القراءة المبدعة.