تباين الرؤى وتعدد التأويلات في قصص ”حسن علي البطران“ القصيرة جداً
”حسن على البطران“ أحد رواد القصة القصيرة جداً أو التغريدة السردية جداً بالسعودية وهذه السرديات المكثفة عبارة عن قصص قصيرة جدا متناهية القصر؛ التلميح فيها أكثر من التصريح هي نوع سردي حديث من منتجات عصرنا الأدبية سريعة الإيقاع، متعددة المعاني والتأويلات، بحيث يمكنك أن تقرأها اليوم وتراها بمنظور معين، ثم تقرأها بعد حين من منظور مختلف ورؤية أخرى، ولا واحدة من هذه الرؤى يتكرر تأويلها، وربما لا واحدة منها يقصده ”البطران“، الذي حقق نجاحاً كبيراً ومستمراً في تعاطيه مع هذا النوع الأدبي الحديث والذي يصنف من رواده مع مجموعة من الأدباء العرب الذين جنحوا بمواهبهم في هذا السرد، وحلقوا في هذه التلغرافات الأدبية حتى صنعوا لها ولهم موقعا على صفحة الإنتاج الأدبي العربي، وقد حقق منتج القاص البطران نجاحا ملموسا وإقبالا كبيرا جعله ضيفا دائما على كثير من منتديات السرد العربي الحديث، التي رسخت بدورها للومضة القصصية ووضعت لها نظم وطرق تداول ومعايير تقاس بها، وغير ذلك من القواعد التي تتعلق بطريقة نشر هذه القصص شديدة القصر، التي انتشرت بشدة في الآونة الأخيرة من مختلف دور النشر العربية الرسمية الحكومية، وكذلك دور النشر الخاصة، وحسن علي البطران صدرت له حتى الآن أكثر من عشرة مجموعات في مجال القصص القصيرة جدا التي تخصص فيها ولم نرصد له حتى الآن محاولات إبداعية في مجال آخر منشور من مجالات الكتابة الإبداعية رغم أنه يكتب في مجالات إبداعية عديدة أخرى.
ما يتميز به الإنتاج القصصي لحسن البطران المرونة، والخيال الذي يغازل ذوق المتلقي المعاصر، ويلبي احتياج القارئ العائش في العقد الثالث من الألفية الميلادية الثالثة بما شهدت من تطورات في التقنية والإيقاع وكوارث ربما لم يشهدها إنسان العصر الحديث عربيا تحديدًا من قبل، وأعني هنا فيروس الكورونا الذي سبب لنا كل هذا التوتر والقلق رغم أنه أصغر مخلوق على وجه الأرض، ولأن قصص البطران القصيرة جدا بكافة معايير التذوق والجمال الأدبي جيدة جدا لما تحتمله من رؤى وما تشمله من تأويلات؛ ولأنها تناسب متلقي هذا الزمان تسابقت دور النشر العربية في نشر قصيرات البطران فصدر له عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وضمن سلسلة «إبداع عربي» مجموعة قصصية بعنوان ”دانة“، أذكر أثناء تحريراه كيف كانت الإدارة تبحث كيف تصدره للقارئ العربي في كتاب، وقبلها كانت هذه الومضات إما أن تصدر في دوريات أدبية في صفحة واحدة تنشر عدة ومضات أو نراها كتيب صغير يتناسب مع طبيعة المنتج، أما هذا الكتاب فقد كان عامرا بالسرديات القصيرة جداً الجيدة والبارعة التكنيك، وكان محور النقاش هل تنشر كل ومضة في صفحة مستقلة أم تختلط الومضات، وأصرت هيئة التحرير أن تكون كل ومضة لها صفحتها المستقلة، وكان ذلك جيدا، حيث تفسح المجال لخيال القارئ والمتلقي الذي يجد نفسه متورطا في المشاركة بخياله في ملء ثقوب النص التي يتعمد كتاب القصة القصيرة جداً تركها لتفسخ مجال الرؤى والتأويل.
ففي مجموعته «دانة» نقرأ على سبيل المثال قصة من وقصص البطران القصيرة جداً ربما لأن هذه القصة هي نفسها ما عنونت بها المجموعة، يقول فيها: «قبل أن يأسر قلبها.. وصفها بالدانة. أهدته كل شيء، إلا شيئاً واحدًا.. قالت: هو ليس لك..»
هكذا من غير أن تشعر يذهب خيالك إلى حيث تسمح له بالذهاب، وكل قارئ وتأويله بالقراءة، وهكذا تكون القصص، التي يعمل الخيال فيها لا يزيد عن خمسة عشر كلمة؛ قال البطران ما أراد أن يقول في هذا الشكل الجديد من أشكال السرد القصصي فهذه طبيعة القصص القصيرة في ثوبها الجديد القصير جدا التي يكتبها ”البطران“ وفي هذا الجنس الأدبي الحديث والذي سنتعرف على كثير من معالمه في هذا المقال مع إلقاء الضوء على الكاتب ”حسن البطران“ الذي في كتيب آخر صدر له عن نادي الطائف الأدبي بالسعودية تحت عنوان ”ماء البحر لا يخلو من ملح“، قدم للقارئ فيه باقة من النصوص القصصية المنوعة مع تغريدات قصصية نقدية يسردها كما شهدنا بكلمات بسيطة مختصرة، يمكن أن يكتفي القارئ في تعاطيه معها بالعناوين الرئيسية أو الفرعية التي تستدرجه إلى تعبيرات جاذبة، وثقوب وثغرات تجلب كثير من الرؤى وتعمل الخيال وتحرض على المشاركة في الإبداع حتى يجد القارئ نفسه مشاركا رغما عنه في كتابة ما هو محذوف من النص حيث يقوم بوضعها مكان نقاط النص وفراغاته كأنه يدعو القارئ إلى أن يكمل المحذوف من النص، وهذا إضافة إلى جماليات السرد المختصر الذي يمارسه البطران فيحقق متعة للمتلقي الذي يجد نفسه متورطا بالسرد فيصير شريكا للمبدع يستشعر متعة الإبداع.
القصة الومضة أو التغريدة القصصية أو الشعرية أو المسرحية أو القصة القصيرة جداً، وغيرها من نواتج تفاعل الأجناس الأدبية مع إيقاع الواقع هي إبداعات شديدة الشبه بكائنات حية دقيقة ليست فطريات أو غيرها من وحيدات الخلايا وإنما هي فيروسات قوية الأثر عظيمة القيمة مجرد أن تجد الكائن الحي الذي لا حياة لها إلا بداخله فالومضة لن تكون ما لم يقرأها القارئ بما أوتي من فكر وثقافة، وهي رغم بساطتها تعتبر من أخطر المخلوقات، حيث تحتاج كما تحتاج الومضات إلى طرف آخر هو الإنسان كعائل يستقبل خلايا هذه الكائنات الصغيرة جدا لتعيش وتتكاثر وتنمو وتترعرع في وجوده، وكمتلقى للقصة القصيرة جدا أو الومضة التي لا تكتمل هي أيضا إلا بإعمال خيال القارئ الذي يساهم ويشارك بنفسه في الإبداع وإكمال ما بين السطور وملئ الثغور وسد الثقوب والفجوات التي يقرأها بأسلوبه وبثقافته وبقناعته كيفما يشاء والنص الومضة هو أيضا كذلك.
أغلب نصوص مجموعة البطران القصصية «ماء البحر لا يخلو من ملح» تعتمد على موضوعات جسدية لا يتردد في عرض أفكاره التي تعبر عن أثر الجنس على مجريات أمور العالم، ولذلك نجد كتاباته غنية بالعواطف الجسدية والجنسية التي تجذب قارئ العصر وتعكس أفكاره ليرى كل قارئ المشهد من واقع تجربته هو، لا كما يعرضها المبدع.
البطران يكتب ما لا يستطع غيره من المبدعين كتابته؛ متجولا بالعديد من مشاهد الحياة الإنسانية بقصد أو من دون قصد باحثا لنصوصه القصصية عن سبل التحدي والبقاء والقبول مستخدما لأجل ذلك أسلوب أقرب ما يكون إلى أشعار ”نزار قباني“ عندما كان يكتب في النقد الاجتماعي بنفس العمق والتهكم الذي يكتب به قصائده العاطفية مع احتفاظه بنكهة خاصة وخصوصية، فيسخر من موقف الدوريات التي تصدر في بلاده والتي ترفع شعار الاهتمام بالأدب المحلى ولكنه عندما يتصفحها لا يجد بها ولا منتج محلى، ولذلك كتب البطران [ص 29] في «ماء البحر لا يخلو من ملح» قصة قصيرة جداً طريفة بعنوان «صفحات هلجم..» التي يقول فيها أنه طالعها و«... لم يجد اسماً من داخل دولتها..» ثم وفى نهاية الأمر اختتم ومضتة القصصية بعبارة تقول: «مجلة دورية أدبية تعنى بالإبداع المحلى» وهذه القصة من دون المجموعة تتجه إلى نقد الدوريات الأدبية.
وفي قصة أخرى من مجموعته «ماء البحر..» يكتب في [ص 12]: المعتلي صهوة جوادها» والسؤال هنا أين يذهب خيالك عندما تقرأ مثل هذا العنوان، وكيف قرأ؟ وعلى أي محمل تحملها؟
حيث كاتبنا ”حسن علي البطران“ بريء من استخدام التورية أو توظيف الرموز أو الإسراف في الخيالات والتلميحات هو لا يقصد التلميح أبدا لأنه كاتب صريح يعبر عن أي مواقف أو إيحاءات يقصدها بطريقة مباشرة لأن النص القصير الذي يكتبه ليعبر به عن الواقع بكل شجاعة ووضوح لا يحتمل أي دوران أو التفاف، وإن كنت أنت أيها القارئ اعتقدت غير ذلك فأنت حر لأن «حسن على البطران» يقصد تماما ما يقول والاعتلاء الذي يكتب عنه لا يقتصر على جواده فقط، إنما يسقط بكل شجاعة على العلاقة بين الرجال والنساء، ولتأكيد نيته اقرأ عبارة تالية بومضته السردية يقول فيها «سابق الهواء بها» يعنى الموضوع رحلة ممتعة فوق فرس جميلة في هواء لطيف مضي فيه كاتبنا بأقصى سرعة، وقد تكسر الزجاج من أثر ذلك، والزجاج إن كسر لا يمكن إصلاحَه لكي تتأكد من وضوح نواياه.
انتشرت القصص القصيرة جداً واستمر القاص ”حسن علي البطران“ في كتابة هذا النوع السردي لما وجد من تفاعل إذ يعبر بها عما يريد ويوفر للقارئ كتاب يستطيع بكل بساطة أن يقرأه بالكامل في جلسة قراءة واحدة بتركيز غير كامل كما يمكن تكرار قراءته مرة أخرى أو أكثر من دون ملل لأن الأمر يتعلق بفن سردي حديث، ولا تخلو نصوص البطران جميعها من جماليات لغوية وأدبية تحرض على التفاعل، وهذا التفاعل من طرف جمهور القصص هو ما أطلق عليه «جيرار جينيت» في كتابه «دراسات في النص والتناصية» ”كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى“ ونلمح ذلك بوضوح أكثر في ومضة للبطران بعنوان «نهاية نبض» يقول فيها «كشف عن نيته.. ازداد معدل نبض قلبها.. أراد أن يطمئنها.. فشل في خطته.. تدثر تحت نية جديدة».
يتمتع ”البطران“ في كتابته القصصية بقدرة على نحت جمل ذات عبارات قصيرة شيقة ومعبره، يمثل بها قطاعا عريضا من الناس لذلك يستطيع التواصل مع متلقى هذا العصر الذي ما عاد يحتمل وسط كل هذا الركام والضجيج والصخب عبارات الأمس القريب الكبيرة والمركبة التي كانت يوما ما من أهم لوازم كتابات العقود السالفة حيث كان يحتفي بجماليات لغوية ومحسنات بديعية لن يحتفي بها عصر مكبل بهذه الفوضى وهذا الصخب.