الخطاب السوسيولوجي وتمثلاته في السرد
الخطاب السوسيولوجي وتمثلاته التي تعكس صور الحياة اليومية وتجلياتها وانعكاساتها على الشخصيات القصصية هو الرهان الرئيس للمجموعة القصصية ”ثرثرة خلف المحراب“ للقاص حسين السنونة والتي صدرت عن نادي الحدود الشمالية بالتعاون مع دار الانتشار العربي.
ورغم أن الخطاب السوسيولوجي خطاب جاد وساع لتفكيك المسكوت عنه في المجتمع إلا أن المجموعة منذ العنوان تهدف إلى السخرية اللاذعة والمريرة مما يحدث للشخصيات، حيث يتناص الكاتب مع رواية نجيب محفوظ ”ثرثرة فوق النيل“ في تواز مع تقسيم بنية العنوان، في تهكم حاد من حالة اجتماعية جادة، فالشخصية الجالسة في انتظار الصلاة تفكر في كل شيء ما عدا الخشوع الذي من المفترض أنه سمة للصلاة. ولم يكن التناص مع ”ثرثرة فوق النيل“ على مستوى البنية اللغوية فقط، بل على مستوى القضايا الوجودية والسياسية والاجتماعية التي تشكل الفضاءات السردية.
أحداث معظم القصص تسعى لرصد صراع الوجود، لكن الصراع لم يكن فلسفيا بقدر ما كان اجتماعيا من أجل الحصول على الحد الأدنى من الإنسانية، سواء كان السارد مواطنا أو وافدا. نجد الذات الساردة في نص من النصوص يذهب للبحث عن معاملته في واحدة من المؤسسات الحكومية، فلا يجد إلا اللعب بظلال الخيال ليقنع الموظفين بإنهاء معاملته، وينهض الصراع منطلقا من قانون الجدل السوسيولوجي في المجتمع، الذي يتحول فيه الوعي من حال لآخر دون أن يدركه الإنسان كحالة مادية ملموسة.
الخطاب السردي في القصة الأولى ”ثرثرة خلف المحراب“ السارد يجلس للصلاة في انتظار الإمام الذي تأخر قليلا، وبتأخره بدأت الذات الساردة تثرثر في مونولوج داخلي، تكشف عن الصراع النفسي الذي هو مدخل للصراع الاجتماعي، فالمصلون تختلف مشاربهم، يتفقون جميعا في النفاق الاجتماعي الذي يستتر خلف التدين، فعبر المونولوج نتعرف على معظم الجالسين يثرثون خلف المحراب في انتظار إقامة الصلاة، بل نسمع نغمات الهواتف الحديثة وأفكار السارد عن سعر الطماطم والفريق الرياضي الذي يتمنى فوزه وصراع أبطال المسلسل التلفزيوني والخبز الذي طلبته أمه، وما إن تكتمل الثرثرة حتى يأتي الإمام ويقيم الصلاة.
معظم النصوص تكشف عن جدل ما هو اجتماعي وفكري. في قصته ”أجساد ثملة“ يجعل الكاتب من الطبيعة معادلا موضوعيا لأنثى متمردة تسعى جاهدة للخروج على قيود المجتمع التي تكبلها، فتشاركها الطبيعة، المطر والريح والرعد، التمرد وكسر قيود المجتمع الذكوري، حيث خرجت تنشد انعتاقا من قيود الأربعين سنة التي حبستها داخل نسق اجتماعي يجبر الأنثى على أن تغوص في أزماتها.
لم تكن قصة ”أجساد ثملة“ هي القصة الوحيدة التي أراد الكاتب من خلالها أن يفضح ممارسات الخطاب الذكوري، بل في قصة ”أنين الذكريات“ حيث تقرر الذات الساردة «الأنثى» العودة لبيت الجد المهجور؛ لتستعرض من خلال ذاكرة المكان والأوراق المنسية تاريخ القهر البطرياركي ليس للذوات النسوية فقط، بل حتى للعنصر الأضعف من الرجال، فالجد مارس سطوته حتى على الأب ومنعه من قراءة الكتب.
لكن الكاتب يفشل في الكشف عن ذاكرة المكان، عن معاناة الذوات، فتعثر على ”مفكرة“ تقرأ فيها عدة خواطر على لسان الأب لا تفيد الصراع الدرامي ولا تسهم في تصاعده، فقط خواطر بلغة مغرقة في الرومانسية والمجازية.
يستخدم الكاتب تقنية الرسائل، عبر صوت عاشقة صينية أحبت عربيا، وأرسلت له رسالة تخبره فيها بمدى حبها له، ومن خلال هذا النص نقرأ خطابا شوفينيا مبالغا فيه، فالمرأة الصينية التي تنتمي لثقافة وحضارة ضاربة في القدم تكتب شغوفة بالعربية والعربي بشكل مبالغ فيه من ناحية، وبلغة تتوسل بالمجاز من ناحية أخرى، رغم أن النص من المفترض به أن يقدم خطابا إنسانيا متقبلا للآخر إلا أننا نجد خطابا شوفينيا للأنا بلغة بوح مجازية تخرج على لغة التشكيل السردي.
في نص ”غباء خاص جدا“ يكشف الكاتب عما يعتور الذات من صراع فكري، فالسارد الذي تصادف أنه مطلق للحيته وشاربه يتهمه شرطي المرور بأنه متدين، فقط لأنه نظر إلى شكله، لحيته وشاربه، ويصف المتدينين بالثقافة الزائفة، ثم ينتقل إلى مستوى آخر من الصراع، فيقابل أحد المتدينين الملتحين الذين اتهموه بالعلمانية؛ فقط لأنهم رأوه قد أزال لحيته وشاربه، ساعتها يقف في حيرة من أمره ويقرر أن يحلق اللحية ويطلق الشارب.
في قصة ”قطط، حشرات، نمل“ يكتب السنونة نصا رمزيا عن باسم وباسل وبسام ومواطن، الذين يمثلون فئات المجتمع: المتدينين والعلمانين، يسقط على الواقع، ويحاول أن يكشف الطبقات الاجتماعية والعلاقات بينها. إنه خطاب سوسيولوجي يرفض هذا الواقع ويدينه بسخرية لاذعة، ويصور حالة اغتراب الإنسان الذي يعاني أزمات عامة تتحرك من حوله وتحيطه من كل جانب حتى أنه يلجأ للخيال لحل أزماته في قصة ”وهج الخيال“ كل ما يحيط بالذوات الساردة يمثل صراعا اجتماعيا ووجوديا ونفسيا. إنها العلاقات الإنسانية في تشظيها وتفسخها.
يفيد السنونة من خطاب القصة السردية من خلال مواقف الشخصيات؛ ليقدم خطابا يدين تهميش الإنسان.
وفي النص الذي يليه ”مثلث ورق“ تحضر تمثلات أخرى للفئات الاجتماعية: الأهل والتجار والمثقفين ورجال الدين، فالأب والأم يمثلان الأهل، والتاجر مجروش يمثل التجار، وجاسم الجابون يمثل المثقفين وأخيرا الإمام يمثل رجال الدين، فالمواطن الذي يتمنى أن يتزوج يحاول أن يجمع تكاليف الزواج من كل هذه الفئات، لكن الجميع يخذله، إنها قصة تنبني على فكرة الأدوار الاجتماعية التي ينتظر أن تقدمها كل فئة، لكن الفن لا يُبنى على الأفكار فقط، ولا على نبل الخطابات الثقافية والاجتماعية إنما يُبنى على فنيات النوع السردي، فنيات القصة القصيرة التي لم تتحقق في النص. ولاستخدام اسم ”المواطن“ دلالة اجتماعية، حيث يخرج من الخاص إلى العام، ولم يكن ها النص فقط ما استخدم فيه الكاتب مفردة ”مواطن“ في رمزيتها العامة، بل في القصة التالية ”ترانيم مواطن متسكع“ فعمومية المفردة"مواطن تمنحه اتساع في الدلالة الاجتماعية؛ لذا حملها الكاتب كثيرا من خطابات الانتقادات الاجتماعية التي أرادها، فالمواطن المتسكع يقف في الشارع العام ينتقد الثقافة التي تحكم وعي الناس والاستبداد السياسي والحكام والأيديولوجيا الدينية، لكنه ينتهي نهاية مأساوية.
إن الكاتب مسكون بكشف المسكوت عنه، ففي قصة ”شيخ قريتي“ يكشف نموذجا انتهازيا قادرا على المراوغة من أجل تحقيق مصالحه الخاصة عبر استثمار موقعه، وفي قصته «أنا وأمي والمحرمات" يتبنى نفس الخطاب الكاشف ويقدم لنا هجاء اجتماعيا صارخا.
ومع هذا الخطاب الاجتماعي الواقعي لم تغب القضايا الكبرى عن الفضاء السردي. قضية فلسطين وحرب الخليج تحضران بأشكال متعددة وتتعالقان مع النصوص لتوسيع نطاق الدلالة، فالسرد يكشف عن تحولات الشخصية ويفتح أقواس المآسي والظلم الاجتماعي لدفع الضوء؛ ليكشف عن ظلام أنفاق هذه المآسي.
رغم أن الكاتب وظف الخطاب الاجتماعي الواقعي، لكنه لم يتمكن من تشكيل سردي يحقق جماليات القصة القصيرة ذلك الفن الذي حقق مسيرة فنية طويلة حتى قرّ بما له من جماليات اللغة المشهدية والقبض على لحظات قصصية في دهشتها ومفارقتها لما هو عادي من حكايات وقصص.
وقوع الكاتب في غرام الخطاب الاجتماعي الواقعي جعل الكثير من اللحظات القصصية تفلت من يديه ولا يحقق لها الجمالية المتوقعة.