آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:07 م

أمي من فريق الأطرش «1»

عبد العظيم شلي

سلام عليكم أيها العابرون بين الدروب الظليلة، أيها الصاعدون جذوع النخل، يا أصحاب المناجل والسواعد المفتولة، سلام على جباهكم السمر التي لوحتها شموس ”الگيض“، تحايا عز لاجسادكم التي اعتجنت بطين الحرث وتشبعت بندى الورد، قبلات على هاماتكم العالية كما النخيل، تباركت خطواتكم الرادحة من غبشة الصبح إلى وقت المغيب، جسارة أقدامكم جدارة حياة مهرولة في كل المواسم.

يا وجوه الخير، يا من شققتم الأرض شقا وأنبتم فيها بذور عطاء، ما أروع أناملكم المخضبة بالطلع وعبق الرياحين، تحايا حب بعدد غرسكم وألوان حصادكم، سلام عليكم يا رجال الأمس وسلام على أجسادكم المكافحة.

ضمأ يشدني لشمال جزيرة تاروت لمنطقة شهيرة بزراعة الحشائش والخضار وحقول البطيخ والطماطم، حقول ممتدة إلى منطقة الجبال حتى تخوم البحر، أرض خصب ونماء، أنبتها المزارعون بأشجار النخيل والكنار والتين واللوز والموز والجيمبو والبمبر والرمان، أطياب ثمر ارتوت من نبع ”الركايا“ ودوران ”الجوازر“، والعيون الأرتوازية.

منجل و”قدوم وصخين ومحش“ عدة عمل لرجال جابوا الأرض حرثا ونباتا وحصادا، صناديد لم يهزهم برد ولا ريح، ولم يقولوا أُف عن لحظة تعب ولم ينهرهم أحد، يفترشون السعف ويتوسدون الليف، يتنفسون اكسجين البساتين عطرا ويتوحدون مع كل غصن ونبتة، يراقبون مواقع النجوم ليستدلوا على دورة الفصول، وقياس ”الولمة“، وعلى مشارف المساقي و”اللبو“ انعكست صورهم وتسابقوا صعودا لفعل ”الترويس“ و”التنبيت“ قبل انشقاق عذوق النخلة، يستأنسون إلى اللفاف والتحدير.

مشرئبة أعناقهم لشد الكر واحتضان جذع العمة، يداعبون ”شماريخ العذوق“ كصدر محبوبة مكتنز، أنأملهم تنتقي القطوف الدانية، يهبطون من عل وعلى الرأس ”مخرفة“، ملئ بالأحمر والأصفر، درجات ألوان تسر الناظرين، والمتساقط بني أو أسود، "صرام“ يلتقط فردة فردة، وآخر صعود التحدير“ لقص عذوق الرطب ”المتمر“، ينزل من عل بواسط حبل، وينشر في ”الفدا“ يكوم على السميم و”يچنز“ في ”القلات“، تنتظره الأسواق. جزء يرص على ”المسحة“ المبنية بالرماد المبلل «الطفو»، ذات أخاديد يتقطر عليها السائل الأسود وينساب في حفرة مبطنة، يغرف منها الدبس الغليظ ويوضع في أوان فخارية أو معدنية، كأنه عسل مصفى، يسكب على اللقيمات ويخلط مع البرنجوش والعصيد لذة للآكلين.

الرطب أو التمر صنوان، آيات محكمات علت من شأنه وقدره، وأحاديث قيلت في حقه، وقصائد شعر تغزلت به، وبحوث ودراسات تحدثت عن فوائده ومزاياه، طعام الغني والفقير عبر الأزمنة، استقامت عليه أبدان وقوي عودها، درأ أقواما عن الجوع والفاقة.

ما أسعد الفلاح حين يجمع حصاده، وجه مستبشر يلهج لسانه بالحمد والشكر: يا أيتها النخلة المباركة، أنت رفقيتنا من المهد إلى اللحد، كم نفوس فنيت وارتحلت، وأنت صامدة حية تعانقين عنان السماء.

فلاحون صلبة أرجلهم درعوا الضواحي، لجزّ البقل والفجل والبصل و”القت“، يسبحون في مروج خضراء، متكئين بتحفز بين ربطة ”عقب“ لجعلها ”صرات“ تتجمع أكواما في جوف ”المرحلة“، تساق على الگاري لتحط رحلها في الأسواق ويطاف بها بين ازقة المنازل.

تزدان مزارع كثيرة بحضيرة الأبقار والعجول، تعيش وتتزاوج في حضن الطبيعة وتتكاثر، وطعامها ”عومة وگت“ أنامل النساء حاضرة لمسك الضرع حلابة يومية، يقسم لحليب ولبن وسمن، منتج طازج لذة للشاربين.

وخير معين للفلاح صلابة حمار يشد على ظهره القاري، للتحميل والمواصلات بين الغدو والرواح.

إلفة حياة مجللة بالصلوات وتغريد الطيور، عيشة هنيئة بين ”طاسة“ لبن ورطب متنوع أشكاله وأحجامه وأسمائه ودرجات ألوانه.

كل نخل يكنى باسم خاص به، والقواطع بينهما ليس إلا ”حضار“ من سعف حين يبلى، فالتداخل كثيف إلى حد التشابك من الصعب فرز كل نخل على حده، وحدهم الفلاحون يعرفون الفواصل والحدود من عداد الغرس وأسماء نوع نخلة ونخلة.

فلاحون كلما غرسوا نبتا جديدا انبأتهم الأرض عن آثار لعهود سحيقة، من شدة سواعدهم في تقليب التربة هوت ”صخين“ على أوان فخارية وجرار صابونية، وتهشمت تماثيل بضربة فأس ومن سلم بيع بثمن بخس، غنمها أبو كبوس من وراء العيون، وقليل استوطن متاحفنا الوطنية.

يا زروع يا أروع البساتين، يا معامير فريق الأطرش يا سحر العيون، جمالك فاتن بحسن بهاء، أنت أبعد من المرئي والمنظور، أنت أرض خصب وكنوز مخبأة.