آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

الغبرا في حياته غير الآمنة

أثير السادة *

من يطالع السيرة الذاتية للدكتور الكويتي الفلسطيني الأصل شفيق الغبرا، والتي سردها في كتابه الأخير قبل وفاته“حياة غير آمنة.. جيل الأحلام والإخفاقات”، لن يجد حتما صورة الغبرا المألوفة إعلاميا، الأكاديمي الحاضر بكامل أناقته، والمحلل السياسي المفوه في القنوات الإعلامية، فهو في هذا الإصدار يشبه جيل المخيمات، وجيل الخيبات، التي عرفتها القضية الفلسطينية من بعد النكبة، فقد وجد نفسه باكرا في معترك الصراع الاسرائيلي العربي، وبات واحدا من المنطوين تحت الجماعات والسريات الطلابية المقاومة آنذاك وهو مازال في مطلع العشرينيات من العمر.

الفتى الذي عاش طفولته المترفة في الكويت، بعد قدوم والده إليها ضمن أوائل الأطباء العرب، سيكبر وتكبر معه فصول القضية الفلسطينية، حتى حين سافر للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية ظلت فكرة الالتحاق إلى العمل الفدائي حاضرة لديه، وكان لأجلها يقصد بيروت بين وقت وآخر، زيارات عرفته بالجيل الأول من القيادات الفلسطينية، قبل أن يقرر الإقامة فيها بعد التخرج من الجامعة من أجل التفرغ لما أسماه العمل الثوري.

وجوه وشخصيات بارزة تحضر ضمن ذكريات الغبرا التي يستعيدها بكثير من التفصيل، كوادر وقيادات، مقاتلين وفدائيين، كانوا يومها على موعد مع المقاومة بمثل ما كانوا على موعد دائم مع الموت، يتشابهون ويختلفون في مشاربهم الفكرية، غير أن نضالهم ضد الاحتلال هو ما يوحدهم، ويحرضهم على صناعة الكثير من الأحلام، وفي مقدمتها تحرير الأراضي المحتلة.. كان الغبرا جزءا من كتيبة الجرمق، الذراع الطلابي الذي شارك في الكثير من الأعمال القتالية، ومنها اقتحام الشريط الجنوبي المحتل، وزرع الألغام، والمواجهات وغيرها.. كان منخرطا بكل حواسه وتفكيره في العمل النضالي، يتنقل معه بين التلال والأودية، ومختلف مواقع القتال مع رفاق السلاح، غير أنه ظل يحمل في داخله قلقا على رفاقه الذين سيمضون شهداء في هذا الفصل من فصول النضال.

تماوجات المشهد العربي تركت أثرها في سيرة الشاب العشريني آنذاك، فقد وجد نفسه أمام إفرازات جديدة لمرحلة لم تكن في الحسبان، الاجتياح الاسرائيلي للبنان ومجازر صبرا وشاتيلا كان في مقدمتها، وتلتها الحرب الأهلية، والتدخل السوري، والانشقاقات والتحولات التي طرأت في المشهد الفكري والسياسي بعد الثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، كان لكل حدث وقعه وتأثيره على جيل المقاومة على حد وصفه، كان كل حدث بمثابة منعطف لإعادة التفكير بالنسبة للغبرا. يحمل الكتاب حس المراجعة لفكرة النضال المسلح والذي لم يحقق أحلام جيله، غير أنه يستدرك بالإشارة إلى دور هذا النضال في حماية القضية الفلسطينية من التصفية.

جيلنا رد بطريقته على أزمة العالم العربي وهزيمة 1967، بهذها القول يختصر الطريق إلى مسوغات الكفاح المسلح والعمل الثوري في تلك الحقبة، يقدم لنا تفسيره لتلك الحروب والمواجهات التي انتهت إلى جر حروب ومواجهات أخرى، ترك بيروت كما ترك حركة فتح وهو في الثامنة والعشرين من عمره، اتخذ قراره في لحظة شعر بأن“غابة البنادق”تحولت إلى عبء على أحلام هذا الجيل، ظل يعيش الحيرة في تحولات رفاق الأمس وعشاق السلاح، وتحول الجو العام بعد الثورة الإسلامية في إيران، حيث صعود التجربة الإسلامية على حساب التجربة اليسارية، في الوقت الذي يعتقد أن هذه الأخيرة هي الأجدر في فهم الحضارة العربية و”المواءمة بينها وبين الحضارة الإسلامية لمصلحة الحداثة”.

تجربته الأكاديمية، وسنواته دراسته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، جعلته أكثر براغماتية، صار يتحدث عن الحريات في الدول العربية باعتبارها“هي أهم رديف للقضية الفلسطينية ونصرتها”، وبات يدعو لما يسميه“المقاومة المدنية”، مقاومة أقل تدميرا للإنسان والحياة، مقاومة تجمع النضال بالفن والكلمة، بالمسرح والسينما، وبالمقاطعة، والمسيرات، وحماية الهوية والذاكرة.. الغبرا الذي غاردنا إلى عالم الآخرة في العام المنصرم يبقى رغم كل هذه التحولات الفكرية مدافعا عن تجربته في هذا الكتاب التي يرى بأنها ما كانت محمولة بحب السلاح بل بحب العدل والحرية والسلام.. وراثيا في ذات الوقت رفاقه الذين مضوا في ريعان الشباب، فيما ظلت صورهم حاضرة في ذاكرته، ترفده بالأسئلة والحزن وكذلك الأمل بحل عادل للفلسطينيين.