آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

غيث من السماء أم قطر من الفضاء.. حدث وحديث.. ”10“

عبد الله أمان

لا يتساوى هَطل المطر الرباني المِعطاء المُتتابع، بما تُخلفه آثاره الوقتية، مِن امتلاء جَوادِّ طرق المدينة النظيفة، بطبقة مِن المياه؛ واتساخ - غير مَرغوب فيه - لسيارات مُستخدمي الطريق؛ أَو تسرُّب؛ أَو ترشِيح في أَسقف بُيوتنا… غير أنَّ نزول الغيث المُنهمر، هو هِبَة رَبَانية كُبرى، يُحيِي الله بها الأرض الجدباء، بعد مَوتها، بإِذن ربها…! ومَن أَحسنُ قَولًا؛ وأصدقُ وَعدًا؛ وأَقومُ فِعلًا؛ مِن قَول، ووَعد، وفِعل الخالق - عز وجل - «الذي جعل لكُم الأَرضَ مَهدًا وَسَلَكَ لَكُم فِيهَا سُبُلا وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فأخرَجْنَا بِه أَزوَاجًا مِن نَّبَاتٍ شَتَّى» صدق الله العظيم!… تلك جُزئية واحدة، وقطرة مَحسوبة مَحسوسة، مِن جزيل نَبع ووَافر فَيض وهِبات نعم الله تعالى علينا، الذي أَهدانا ما نَبتغيه مِن خيراتٍ الأَرض؛ ووَهبنا ما نَحتاجه مِن غِذاء حلال طيب؛ وأَخرج لنا، مِن بطن الأَرض، ما تسر به أَنفسنا، وتقر به أَعيننا… وفي ذلك غَاية الفضل والإِحسان؛ ومُنتهى الكرم والإنعام؛ وسَعَة الصِّلة والعَطية؛ ومَبلغ التفضل والعطاء؛ وكرم إِسباغ النعمة الضافية... ولعل انحسار إِنزال الغيث؛ وتقلص هطل المطر؛ يؤديان ويؤولان إِلى نُشوء مَوجات مِن الجدب؛ ومُثول هَبات مِن المَحْل؛ وظهور مَشاهد مِن القحْط، لها آثارها البيئية المُدمِّرة، ونتائجها الحيوية المَقِيتة على استمرارية ودَيمومة انبعاث، ودَبيب الحياة الفطرية النشطة، على سطح المعمورة… أَقل تلك الآثار المُترتبة الناتجة: سَلب النعمة؛ وإِنزَال النقمة؛ وشُيوع المَجاعة؛ وذُيوع، وتفشِّي مُختلف الأَمراض؛ وانتشار مَشاهد ومَظاهر التصحُّر؛ وربما تفضي عاقبة ذلك البلاء النازل؛ وتتفاقم خاتمة سَطوة الرِّزء الحاصل إِلى أَزمة انقراض وفَناء الحياة الفطرية قاطبة، على وجه اليابسة…!

هذا، وبعد إهداء ما تقدم مِن مُشافهة مُقتضبة ناعمة، وإِسداء رِدئها: الهمسة السهلة الرقيقة… وباستهلال تلك المقدمة المختصرة، والمعلومة الحاضرة، عِلمُا، وفَهمًا، واستيعابًا مُسَبَّقًا، في ذِهن، وفِكر القارئ الكريم؛ يطيب لي استأذانًا وتلطفًا، أَن أُدلي مُتواضعًا، بدِلاء الكشف السهل؛ وإِفادة الإبانة المتواضعة، عمَّا في كامن جَعبتي مِن شَذرَة صغيرة؛ وكِسرة مُغلَّفة، وأهم ناويًا مُتعجلًا، بكَسر كبسولتها اللدنة الهشة تباعًا، أَمام استحضار واسترعاء واستدعاء حاضر حَواس القارئ الأَريب، بفائق لُطف، وأَنيق أَريحية؛ لأَتقاسم وأَتحاصص معه فائق ريعها معًا، في جوف صَحَفة واحدة، على سُفرة مَائدة سَنِيَّة مُشتركَة، يسعدني أَن أكون ضيفًا عَابرًا في طرفها المُتسع، بين سَمَاحة ودَمَاثة شُخُوص الضيوف الحاضرة المكرَّمة… ففي الربع الأَخير مِن سَبعينيات القرن الميلادي المُنصرم تحديدًا، كنت وأَحدًا مِن الطلاب المُبتعثين إِلى أَمريكا، لصالح وزارة المعارف الجليلة؛ ضمن برنامج إِعداد مُعلمي اللغة الإِنجليزية للمرحلة المتوسطة… حيث كنت آنذاك قد انخرطت - في الحرم الجامعي - في ”كورس“ دراسي اختياري في «الجغرافيا الطبيعية» وكلنا يعلم مُفردات ذلك المنهج المثير المُثَقِّف، لواحدة مِن سِلسِلة شقيقات علم الجغرافيا الواسع الماتع، إِذ لا غَروَ، ولا عَجبَ أن يَلبس هذا العلم الشامل ”مُتهندِمًا“ ويَتوشَّح مُتبخترًا - بكفاءة واقتدار - ببُردة عِلم العلوم؛ ويشع مُتلألئًا شَامخًا في بَوتقة جُل الفنون… ويتفانى أَستاذ الكورس المحاضر - ذِهابًا وجِيئةً - في قاعة المحاضرة الفخمة الفاخرة، بين الفَينة والأُخرى - في تقديم مُفردات المنهاج، إَلى أِن يصل إِلى جُزئية خارطة توزيع هطول الأَمطار على الولايات الأَمريكية الجنوبية؛ ليُعرِّج على وِلاية تكساس، ويسرد مُفصلًا ”حدث وقصة“ انزال المطر الاصطناعي في منطقة آهلة بالسكان ”metroplex- الميتروبلكس“ ويُقْصَد، بها المدن الثلات الرئيسة في شمال الولاية: «دنتون، وفورت ورث، ودالس» الثرِيَّة بأُصول المال؛ والمُميزة باحتياطي النفط الخام، والتي يشكل مََوقعها الجغرافي المرمُوق، مُتباعدة رؤوس مثلث…

ويتابع الأُستاذ المحاضر رواية حَبكة ”الحَدَث المثير“ للسامع، ومُتلقي خبر المعلومة الجديدة معًا؛ ويفيد مُستطردًا: حدث في إِحدى السنوات العِجاف أَن أجدبت الأَرض، ولم ينزل المطر الرباني قط في منطقة الميتروبلكس؛ ليتصدر مُقاول صادح شاطح، اسمه ”مستر قرقز“ ويتعهد بإِنزال المطر الاصطناعي، فوق المنطقة، المشار إِليها… ولإنجاز بنود تلك المقاولة الشاطحة الصادعة، بقضها وقضيضها، ذهب إِلى جنوب ولاية تكساس - برِجاله وعَتادِه - حيت يقع هناك خليح المكسيك؛ وقام بتركيب تقنية مُبتكرة، مِن ألواحٍ زجاجيةٍ عاكِسة خاصة، فوق سطح مياه الخليج، تسمح بمرور أَشعة الشمس الوافرة هناك؛ لتَسقط الأَشعة المركزة؛ وتَرتد ثانية مِن فوق سطح الماء، مُولِّدة حَرارة عالية، قامت بتبخير جزء مِن سطح الماء، مُحدِثَة تكثف وتصاعد بُخار الماء الناتج إِلى أَعالي الأُُفق؛ وعلى أَثر ذلك المُتغير الناتج الجديد، تشكَّلت وتجمَّعت قطع مِن الغُيوم والسُّحب الكثيفة؛ وقد نجح المقاول قرقز نفسه بدفعها بواسطة مُعِدات خاصة؛ حتى ساقها وأَوصلها فوق منطقة الميتروبلكس المُستهدفة؛ وبعدها، أرسل مُفرقعات مِن الأرض؛ لتصطدم وتحطم رُكام الغيوم المتشكِّلة، وتسقط - بإِذن الله تعالى - مطرًا صِناعِيًا، من الفضاء، على أَجزاء مُتفرقة مِن منطقة الميتروبلكس… وبهذا الإِنجاز العلمي المثير الآسر، تم اكتمال وإتمام المشروع بنجاح؛ وكسب المستر قرقز رِهان المقاولة - المثيرة للجدل - آنذاك؛ وبعدها، أُسدِل الستار الأَبيص القاتم على حدث الاستمطار الصناعي المُنفَّذ الصادم، والمدبَّر أَساسًا، بعظمة وأَسرار، القوانين الربانية؛ ولا دَخَل لغَلبة ونَباهة العقل البشري فيها، جُملة وتَفصيلًا!

وحدث ذات مرة، وبعد أوبتي مِن البعثة الدراسية، واستهلال التدريس في مدرسة الساحل المتوسطة، في جزيرة تاروت، بالمنطقة الشرقية، أن تجمَّع وتجمهَر حَولي المدرسون، في غرفة الاستراحة، أَثناء الفسحة، وأنا أسرد تفاصيل حَدَث الإستمطار الصناعي، وقد غَطت وُجوههم مَشاهد الإِندهاش، واعترت مَسامِعهم مَشاعر الذهول؛ وفي مِثل ذلك الموقف المُماثل، حَدث مَعي في مدرسة القطيف النموذجية المتوسطة!… وفي مَسار السياق نفسه، استوقفني مَرة، أَحد الخطباء البارزين المعروفين في المنطقة؛ ليستطلِع ويستوضِح تفاصيل الحدث المُثِير المُتناقَل، مِن مَصدره، ويسمعه بجزئياته المنقولة الدقيقة…

هذا، وفي كَفتي مِيزان الحالتين: صَنعة نُزول الغيث الرباني؛ وفكرة هُطول الاستمطار الفضائي الصناعي؛ وفي كفة الميزان الراجحة تتجلى عَظمة ورَجاحة قدرة الخالق المُبدع في رَحمة إِرسال وإِدرار ماء السماء المنهمر، مِن بُطون المُزن الثِّقَال إِلى صُعُد الأرض الجدباء الماحِلة… وإِنما عقل الإِنسان مُدبَّر ومُسيَّر بقدرة الواحد الأَحد، الفرد الصمد، الذي لا يَعزب عن عِلمه مِثقال ذرة في أَقاصي أَقطار السماوات؛ أَو أَطراف الأَرض، إِلا يدرك ويعرف بكنهها؛ ويحيط ويعلم بحقيقتها، وهو العلَّام الحفي الخبير، بما في صُدور وعقول العالمين جميعًا!

ولعل مِيكانيكِية إنزال المطر الرباني مِن السماء إِلى الأَرص، تحاكيها وتقلدها؛ وتتبع مَسارها الإِجرائي المَرحلي - بتصرف بشري مَحدود جدًا - فِكرة الاستمطار الفضائي المشابهة المُقَلَّدة… وقد ارتقى بشموخ ملحوظ، وإِرادة صلدة مُصطلح ”إمطار الدماغ، أو العصف الذهني“ ليَحتل مَقعدًا راسخًا؛ ويَنال مَوطِئ قَدم ثابت في المُنتديات والندوات والحلقات العلمية؛ للتوصل المأْمول إلى قوائم حُلول عَملية، قابلة للتطبيق والتنفيذ؛ لتسوية وتطوير وتحسين أطياف المُبتكرات العصرية؛ وأَصناف المُخترعات التقليدية؛ وإِيجاد مُقترحات عملية؛ وابتكار حُلول تصورية مأْمولة، تحل مَشاكل تعطل إكمال مشروع حَيوي بنائي، لصالح البشرية جَمعاء… وقد استفادت فُرق ومُجمعاث الأبحاث العلمية مِن مُحصلة ونِتاج هذه الجوانب والأساليب البحثية العلمية المُبتكرة، قلبًا وقالبًا… وقد صَدق وأَبدع الإمام علي بن أَبي طالب - - في نظم الشعر الجميل المنسوب إِليه، مُخاطبًا تَجِلَّة عَقل الإنسان السامق الباسق: وتحسب أنك جُرمٌ صَغيرٌ… وفيك انطوى العالمُ الأِكبرُ!