المسبحة ذات الخرز الخضر
يَذُبُّ عَنْ نفسهِ الراحةَ باعتدالٍ، يدققُ فِي كلماتهِ وينتقيهَا بدقةٍ متناهيةٍ وحرصٍ شديدٍ، يتخذُ زاويةَ مجلسهِ الْيمنى باستمرارٍ لتكشفَ لَهُ كلَّ مَنْ فِي الْمجلسِ؛ كي يسعفهُ مَا تبقى لهُ مِنْ قوةِ نظرٍ فِي عينيهِ تضاءلتْ مَعَ مرورِ الوقتِ، ترتسمُ منهُ ابتسامةُ سماحةٍ ممزوجةً بعطفٍ حينَ تلمحُ عيناهُ أحفادهُ يتخذونَ مجلسَ جَدِّهِمْ مِضْمَارَ سِبَاقٍ لممارسةِ هوايَاتِهِمْ الطُّفُوليّةِ وحركَاتِهِمْ الْبَهلوانيّة.
يلتزمُ الصَّمْتَ فِي مُعظَمِ أوقاتهِ وينصتُ جيدًا لمَنْ يتحدثُ معهُ، مسْبَحَتُهُ ذاتُ الْخَرَزِ الْخُضْرِ لا تفارقُ يدهُ، وترتيبُ سجادتهِ التي أخذَ ترتيبها نمطًا متكررًا طبعَ وعكسَ فيها نمطيةَ رتابتهِ واتزانهِ التي دأبتْ نفسهُ عليها، يُدَاوِمُ في التَّسبيحِ وتَلْهَجُ نفسهُ بالتَّكبيرِ، طالما طرقتْ أُذْنَيِّهِ وتعلقتْ أحاسيسهِ بتراتيل من يقرأ القرآن لَهَُ الذي تشرَّب ألفاظهُ بسكونهِ وحركاتهِ تشربًا جعلتْ منهُ لا يستسيغُ الخروجَ عَنْ قواعدهِ الصَّحيحةِ بدونِ معلمٍ لهُ أو موجهٍ؛ فتراهُ يبادرُ بردٍّ أو تعديلٍ عَلى مَنْ يقرأ بأريحيِّةٍ وتلقائيةٍ وسليقةٍ جُبِلَ عليها حتى لا يكادُ يُشعرُ مَنْ يقرأ بحرجٍ أو ضيقٍ.
وسرعانَ ما ينتهي مجلسهُ فيبادرُ بعدها للنومِ ليستقوي بساعاتٍ قلائلٍ ليجلسَ مرةً أخرى ليكونَ بعدَ ذلكَ في لقاءٍ مَعَ معشوقتهِ صلاةِ الليلِ التي لَمْ يتركها منذُ بلوغهِ.
يَرْكُنُ إلى أسلوبِ الْبساطةِ في كلِّ شيءٍ، لَمْ يستهويهِ ما زانَ مِنْ الثيابِ ومَا طابَ ولذَّ مِنْ الطعامِ، يأخدُ مِنْ الطعامِ فقط ما يستقوي بهِ على استمرارِ ما يؤديهِ مِنْ واجباتٍ ويصلبُ عودهِ.
يُشْعِرُكَ بطريقةِ تعاملهِ مع أبنائهِ بأنهُ نالَ حظًا كبيرًا وافرًا مِنْ طرقِ وأساليبِ مَا يُسمىَّ بالتَّربيةِ النَّظاميةِ، لكنَ ما هي إلا جذورٌ تأصلتْ في نفسهِ وثوابتٌ صُقِلَ عليها واكتسبها ممَنْ عاشَ معهمْ، فهو يمتلكُ توازنًا انفعاليًا لا يخرجهُ عَنْ الْجَادَةِ أبدًا، لا يستخدمُ وسيلةَ العقابِ الْبدني مَعَ الأبناءِ مهما استفزَّوهُ بتصرفاتهمْ ومناوشاتهمْ مَعَ بعضهمْ، مناداتهُ لهمْ باسمائهمْ تختزنُ الكمَ الكبيرِ مِنْ الاحترامِ والتقديرِ لذواتهمْ وتُعَزَّز الثقةَ المتناميةِ عندهمْ، لمْ يعتادوا على أَنْ يسمعوا منهُ البتةَ تنقيصًا لأسمِ واحدٍ منهمْ.
استوحى بغرسِ فسائلِ النَّخيلِ في بستانهِ وعلَّمَهَا بأسماءِ الأولادِ والبناتِ ليكَرِّسَ ربطهُ لما ترمزُ لهُ النَّخلة مِنْ أهمية مِنْ جانبٍ وعنايتهِ ورمزيتهِ لأهميةِ الاهتمامِ والتربيةِ للأولادِ مِنْ جانبٍ آخر؛ وتوطيدِ العلاقةِ والربطِ بينهما.
وطَّدَ نَفْسَهُ على خدمةِ نفسهِ لَمْ يستعنْ بأحدٍ إلا لشيءٍ لا يستطيعُ أَنْ يعملهُ بذاتهِ، لَمْ يَكُنْ متطلبًا مِنْ أحدٍ، وإنْ قُدِّمَ لهُ خدمةً مِنْ أحدٍ مِنْ ابنائهِ أو غيرهمْ فتراهُ يجزلُ عليهِ صنوفًا من كلماتِ المدح وَ الاطراء.
لم يطلْ بهِ مرضهُ الذي كانَ مستترا بهِ يخفيهِ على مَنْ حولهِ وكأنهُ يقولُ لمَنْ حولهِ لا أُريدُ أنْ أُتْعِبَ أحدًا، سألهُ الطبيبُ في لحظاتهِ الآخيرةِ كيف حالكَ اليوم؟ فردَّ عليهِ بقولهِ كما جرتْ عادتهُ: أنا بخيرٍ! متى تُرْخِصُني بالْخروجِ؟ ردَّ عليهِ الطبيبُ وقالَ: قريبًا، لا أُريد أنْ أُفوَّتَ المشاركةَ في مصيبةِ سيدي ومولاي الكاظم هكذا قالها وهو في عزِّ مرضهِ وشدَّةِ ألمِهِ.
هَمَّ بالقيامِ مِنْ سريرهِ لحاجتهِ لدورةِ المياهِ، بادرَ لَهُ مَنْ كَانَ جالسًا معهمْ بالمساعدةِ، فقالَ لا احتاجُ لذلكَ..
وما هي إلا خُطواتهِ الآخيرةِ في هَذِهِ الدنيا خَتمها بعنونةِ زُهْدٍ وعبادةٍ وتربيةٍ وعفَّةٍ وتضَّحيةٍ وصبرٍ على أذى.