آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 3:07 م

«الحرب والسلام»... ما أشبه الليلة بالبارحة!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

ما أشبه الليلة بالبارحة...! بداية القرن التاسع عشر «1812» اجتاح الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت الأراضي الروسية واقتحموا موسكو، بعد أن حطموا إمبراطوريات أوروبية عريقة. كان الهدف الأول لنابليون إجبار قيصر روسيا ألكسندر الأول على وقف حركة التجارة مع بريطانيا. كان نابليون قوة قاهرة لا يحتمل الروس مواجهتها، ولكنهم صمدوا، ووقفت الطبيعة إلى صفهم: الجوع والمرض وحتى الآفات وصقيع الشتاء الروسي القارس كلها تحالفت وفتكت بالجيش الفرنسي المحتل بعد أن تكبّد الخسائر الفادحة في صفوفه، فمن أصل نصف مليون مقاتل لم يتبقَّ لنابليون سوى أقلّ من 30 ألفاً حين قرر التقهقر والعودة إلى باريس ليدافع عن عرشه. سقطت المدن الروسية، وسقطت موسكو، ولم تستلم، وبقي للقيصر أنه لم يوقّع عريضة الاستسلام للغازي الفرنسي.

صورة من هذه الملحمة خلّدها الموسيقار الروسي بيتر إليتش تشايكوفسكي، في سيمفونيته الرائعة «افتتاحية 1812»، وهي أوركسترا ملحمية تصوّر بطولة الشعب في مزيج من المقاومة والصمود والتضحية أمام أصوات المدافع، وخيبات الغزاة.

لا يمكن للقوة مهما كانت غاشمة أن تقهر إرادة الصمود... تعرّض الروس لغزو من نابليون، مثلما حاولت ألمانيا النازية غزوهم بعد ذلك، وتمكن الروس من قهر خصومهم فقط عبر الصمود واستنزاف الغزاة... لكن دورة الحياة لا تستقيم، ونشوة القوة تُسْكِرُ أصحابها، الدرس الذي لقّنه الروس للفرنسيين والألمان، ها هم اليوم يتجرعونه كأن تجربة أفغانستان لم تضف شيئاً لرصيدهم في الخبرة والحكمة.

غزا نابليون روسيا لفرض إرادته السياسية عليها، وفرض نظام وصاية لم يتقبله الروس وتحملوا الحرب والغزو والدمار... وكانت النتيجة لصالحهم. لا يوجد شعبٌ حرّ يفرّط في استقلاله وحرية اختياره مهما كانت التضحيات. كان المجتمع الروسي في عهد القيصر عشية الغزو الفرنسي ضعيفاً يعاني من طبقة سياسية فاسدة. لكنّ الحرب وحدها صهرت هذا المجتمع ووحّدته وأعادت تنظيم صفوفه من جديد... هذه التفاصيل يسردها في روايته «الحرب والسلام»، الأديب والفيلسوف الروسي ليو تولستوي.

يروي تولستوي تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في روسيا، يعرّي حياة الترف والبذخ التي كان النبلاء القياصرة يعيشونها خلال اجتياح نابليون الأراضي الروسية، ويرسم شخصيات الحرب، وأشباحها. كانت عملاً ملحمياً جسّد عناصر الضعف والهوان في المجتمع، وقوة الروح المقاومة للعدوان، وصور المآسي التي خلّفتها الحرب.

بعد أن ينتهي من الحرب، ينتصر تولستوي في هذه الرواية لأخلاق السلام والتسامح، خصوصاً أنه كرّس حياته للدعوة إلى المحبة، ونبذ العنف والكراهية. ورغم كونه يتحدر من أسرة برجوازية فقد كان زاهداً انحاز للفلاحين والفقراء والمسحوقين وناضل من أجل حقوقهم، وكان صادقاً مع نفسه ومع شعاراته، واختطّ طريقاً إلى الحقيقة لا يمر عبر فساد النخبة السياسية ولا الطبقات الأرستقراطية ولا حتى رجال الدين الذين نابذوه وفرضوا عليه حرماناً كنسياً.

في هذه الرواية يتساءل تولستوي: «لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ لماذا يتعين على ملايين الناس الذين يتخلون عن مشاعر الإنسانية وعقلها أن يسيروا من الغرب إلى الشرق ليقتلوا بشراً مثلهم...؟».

يرى تولستوي أن الاندفاع للحرب يُفقد الأطراف المتحاربة زمام المبادرة؛ الحرب تصنع فلكها الذي يطحن المتحاربين، وتضع سرديتها، وتفرض تبريراتها ومنطقها، فهو يرى أن زمام المبادرة انفلت من يدي نابليون وألكسندر الأول، وأصبحت ماكينة الحرب هي المحرك لصناع الحروب وفرسان المعارك...