الضجيج الداخلي
الحاجة للتفكير تدفعنا دائماً نحو العزلة والابتعاد عن الآخرين، والسكينة التي نبحث عنها حتى نستطيع أن نفكر ونقرر، وهي ليست مرتبطة بوجود الآخرين حولنا وضجيجهم، بل مرتبطة أيضاً بالضجيج الداخلي حيث كل إنسان مسكون بحشد من الأفكار، الرؤى، المخاوف، الطموحات، الذكريات، العادات، لذلك جرب أن تتأمل الناس وهم ذاهبون إلى عملهم في الصباح، راقب الشارع، السيارات، والأفواه ولكن دون صوت، سيبدو لك الأمر غريباً جداً، جرب أن تتوقع ما مشاعرهم، هل ستنجح يا ترى؟ قد تكون مشاعر سعيدة، وقد تكون حزينة، أو عادية، احتمالات كثيرة، ولكن الواقع يقول: إن المشاعر القائمة على الاحتمالات تفشل، ربما لذة عدم اليقين قد تجربها في هذه الحالة، وانعدام اليقين معناه ضياع وضبابية..!
ولكن ألا تدعونا فكرة التأمل والاحتمالات وعدم التأكد إلى ضرورة مراجعة التاريخ المرضي لعلاقاتنا الإنسانية ومشاعرنا الكريمة والمرتبكة تجاه الجميع؟ هل جربت أن تقف هناك في تلك المساحة البيضاء بينك وبين مشاعرك تتأملها وتراقبها دون محاسبة محاولاً تفهم دوافعها! إن مدى تأثرنا كبشر بما يحيط بنا منبعه العقل اللاواعي الذي تراكمت فيه التجارب والخبرات المختلطة على حد سواء، ورسائلنا الداخلية تظهر كمحفز لتعكس ما نحن عليه، وعندما نحاول دمج أنفسنا مع المحيط بنا نفشل في الوصول لنقطة الالتقاء مع واقعنا فقد تعودنا أن لا نعترف بما ينقصنا لأننا نتجاهل ذاتنا فنجهلها، فالتعرف على الذات هو المستوى البدائي من المعرفة الإنسانية، فلا يوجد شيء سوانا يجعلنا ضعفاء أو أقوياء، لا يوجد شيء لا يستأذننا، أن نعترف بارتباك مشاعرنا وداخلنا المكتظ بسكان من تلك الأفكار والمعتقدات والصور معناها أننا نفهم أنفسنا، ونبتعد عما يؤذيها، ونستبدل المشاعر البدائية بما هو أذكى، والإنسان مجبول على تقدير الذات ومحاولة كسب تقدير الآخر، فما بالك بتقدير ذاته، فلا ينبغي أن نفشل ونخسر حتى ندرك أهمية ما لدينا، فكل شيء في هذه الحياة تزداد شدته بمقدار تحملنا له، وبعض المشاعر كالفقد مثلاً غالباً ما تمهد غيابها الطويل، فنتحسس ذاتنا المسروقة ونبحث عنها بين طيات الوعي والحقيقة والألم، لذلك لا بد أن نتأمل ذاتنا من الداخل ونتصالح مع الأشياء الشائكة بداخلنا أياً كانت بكل صدق وبكل شفافية واحترام فمعرفتك بذاتك سينعكس على كل شيء حولك، فنحن نحتاج للهدوء الداخلي حتى نستطيع أن نتعايش مع الضجيج الخارجي ونستثمر كل ما حولنا لنتأمل حياتنا وننعم بالسكون الداخلي.