آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

العرب وقضايا التحول الديمقراطي

محمد المحفوظ *

إن التطلع إلى الديمقراطية في المجالين العربي والإسلامي، أضحى اليوم من القضايا المشتركة بين الشعوب العربية والإسلامية. صحيح أن كل نخبة وشريحة، تفهم هذا التطلع بطريقة قد تتمايز عن الفهم الآخر، إلا أن الجامع المشترك بين كل هذه الأفهام، هو تطلع الجميع ومن مواقع متعددة إلى الديمقراطية.

والتعبيرات عن هذا التطلع متفاوتة، إلا أنها تعبيرات توحي بضرورة إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية ودستورية في البلدان العربية والإسلامية.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الضرورة ليست بدون خسائر، وإنما الإصلاحات السياسية والاقتصادية، تقتضي دفع ثمن وتقديم خسائر، ولكن هذا الثمن وهذه الخسائر هي الأدنى.. بمعنى أن استمرار الأوضاع على حالها، سيكلف الجميع خسائر فادحة وأثمان باهضة. بينما الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي، فإنه لن يكلفنا إلا القليل من الثمن والخسائر. وهو الثمن الضروري الذي ينبغي أن يدفع في أي تجربة إصلاحية وتجديدية.

وإن الموجة الديمقراطية الثالثة، التي يعيشها المشهد العالمي، يدفعنا إلى ضرورة بلورة خيار التحول الديمقراطي في مجالنا العربي والإسلامي.

وفي إطار التحول الديمقراطي المأمول، نؤكد على النقاط التالية:

الوعي الديمقراطي:

إن تطور الخيار الديمقراطي في بلادنا، مرهون إلى حد كبير على انتشار الوعي الديمقراطي في صفوف الأمة والمجتمع. حيث أنه لا يمكن أن يتحقق تحولا ديمقراطيا، بدون وعي عميق بضرورة الديمقراطية وأهميتها ودورها في إخراجنا من المآزق الكبرى التي نعانيها على مختلف الصعد والمستويات.

والوعي يبدأ بالاهتمام كثقافة وآليات وطريقة ومنهجا في إدارة الأمور والقضايا. ويمر بفهم عميق للعبة الديمقراطية ومقتضياتها، بحيث أن يكون سلوكنا الخاص والعام منسجما ومتطلبات الديمقراطية.

ويتجذر هذا الوعي بضرورة الالتزام بكل مقتضيات الديمقراطية، بحيث نقبل النتائج حتى ولو كانت ضد مصالحنا الخاصة والضيقة.

وعبر هذه العملية، يتحقق الوعي الديمقراطي كأحد الشروط الأساسية، لإحداث تحول ديمقراطي سلمي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

ومهمة النخب المؤمنة بالديمقراطية في هذا المجال، هو العمل على تعميم هذا الوعي وتعميقه بمختلف الوسائل في الواقع المجتمعي.

الثقافة الديمقراطية:

إذ أن تعميق الخيار الديمقراطي في واقعنا المجتمعي، بحاجة إلى ثقافة ديمقراطية، تؤكد على القيم الكبرى الحاضنة والحاملة للديمقراطية، وإلى قيم ثقافية تحترم الآخر بكل تجلياته وعناوينه، وتسعى إلى تأكيد قيم التنوع والاختلاف والتعددية وحقوق الإنسان. فبوابة تعميق الخيار الديمقراطي، هي تجذير الثقافة الديمقراطية في الواقع المجتمعي. وذلك لأن الديمقراطية، ليست أشكالا سياسية أو إجراءات قانونية فحسب، وإنما هي قبل كل ذلك، ثقافة تقبل المغاير وتحترمه، تؤمن إيمانا عميقا بأن الحقائق الإنسانية والسياسية نسبية، وإنه لا يمكن احتكارها من قبل أي طرف. وهي ثقافة تشجع وتدفع الجميع للمشاركة في المجال السياسي، باعتباره مجالا عاما، ومن حق أي مواطن أن يشترك فيه ويتبوأ مواقع قيادية فيه. لذلك فإن التحول الديمقراطي، بحاجة إلى ثقافة مستمرة، ترفد الواقع بأفكار وتصورات ناضجة، تحتضن هذا الخيار، وتدافع عنه ضد كل النزعات والتوجهات التي تحول دون تطور الخيار الديمقراطي في مجتمعاتنا.

وهذا بطبيعة الحال، يتطلب تنمية كل التجارب الأهلية والتطوعية والمدنية في مجتمعاتنا، لأنها تساهم في توسيع المجال العام، وتحد من تغوّل الدولة، وتعمق من خيار المشاركة والتداول والمسؤولية العامة.

الإرادة الديمقراطية:

وإن التحول الديمقراطي في الواقع الاجتماعي، لا ينجز صدفة أو بعيدا عن الإرادة الإنسانية. بل هو وليد للجهد البشري المتجه صوب إنجاز هذا التحول، كما أنه وليد الإرادة الإنسانية التي تقاوم كل الإحباطات والعقبات، وذلك من أجل الوصول إلى حياة ديمقراطية جديدة. ولو درسنا كل تجارب التحول الديمقراطي في العالم المعاصر، نجد أن لإرادة الشعوب والمجتمعات، الدور المركزي في هذه العملية.

فلا يكفي أن تحمل ثقافة تفضل نظام الديمقراطية على نظام الاستبداد، وإنما بحاجة هذه الثقافة إلى إرادة إنسانية، تمتلك الاستعداد التام لترجمة هذه الثقافة، ومجابهة كل آثار الاستبداد في الحياة الثقافية والسياسية.

فالتحولات الإنسانية، دائما بحاجة إلى إرادة إنسانية متواصلة. ولا يكفي في مثل هذه التحولات، أن تدرك أهمية الديمقراطية أو الفوائد المرجوة من تحقيقها.

إن مربط الفرس في عملية التحول الديمقراطي، هو وجود إرادة اجتماعية تعمل على هذا التحول، وتتحمل صعاب العملية، وتتجاوز كل إحباطات الواقع والتباساته، والقبض على كل متطلبات الفعل الديمقراطي.

والديمقراطية لا تنال بالخطب الرنانة والشعارات البراقة، بل بفعل اجتماعي متواصل، يتجه صوب تأسيس كل البنية التحتية لمشروع الديمقراطية في الواقع الاجتماعي.

وإن التحولات الديمقراطية التي تتم بعيدا عن الإرادة الاجتماعية والشعبية، تفتقد إلى العمق السياسي والاجتماعي الذي يسندها ويجذرها، ويجعلها حالة سياسية وثقافية واجتماعية لا يمكن التراجع عنها.. وذلك لأن ”حقيقة الديمقراطية هي أنها تنظيم اجتماعي سياسي شامل لا بد من أن يقوم على عدد من الركائز الأساسية، منها ثبات النظام الدستوري والقانوني وتأمين الحريات العامة وتعمق الديمقراطية المنظمة وتجذرها من خلال أحزاب حقيقية متنافسة، وبناء توافق يشمل كحد أدنى فكرة التبادل السلمي للسلطة واستبعاد آلية الانقلاب السياسي أو العسكري، وقبول الجيوش للسيادة المدنية بصورة مستقرة، ودخول المجتمع ككل إلى المعترك السياسي بصورة منظمة، وغير ذلك من المؤشرات“ «مجلة المستقبل العربي عدد 276، ص 121».

فلا ديمقراطية حقيقية بدون إرادة مجتمعية، تطالب بها، وتدافع عن قيمها، وتضحي من أجل تكريسها في الواقع الخارجي.

ومن خلال هذا الثالوث «الوعي الثقافة الإرادة»، تتشكل الظروف الذاتية والموضوعية لعملية التحول الديمقراطي.

فالامتزاج الرشيد بين هذه القيم، يوفر إمكانية الانطلاق في خطوات عملية متواصلة في مشروع التحول الديمقراطي.. فالممارسة الاجتماعية والسياسية، تستند إلى وعي عميق بالديمقراطية، وثقافة توضح سبل ترجمة هذا الوعي إلى برامج عمل ومشروعات سلوك. وبهذا تضيف الممارسة خبرة وتجربة، تزيد من فرص النجاح، وتبدد كل أسباب الإحباط والتوقف عن التقدم والتطور.

وهذا لا يعني أن عملية التحول الديمقراطي، عملية بسيطة وسهلة. بل هي عملية صعبة ومعقدة ومركبة، وتحتاج إلى جهود ضخمة وأنشطة متواصلة، ونضج سياسي رفيع، ومغالبة دائمة لكل العقبات التي تعترض عملية التحول نحو الديمقراطية.

فهي عملية تتطلب تراكما متواصلا من العمل السياسي والاجتماعي والثقافي والحضاري، لكي تصبح الديمقراطية كثقافة وسلوك جزء من النسيج المجتمعي بكل عناوينه ومستوياته.

فالبناء الديمقراطي في كل الظروف، هو بحاجة إلى الوعي والثقافة والإرادة. وذلك لأنه لا يمكن أن يتحقق تقدما على هذا الصعيد، بدون الإنسان الذي يمتلك وعيا صادقا بالديمقراطية، وثقافة توضح له سبل إنجازها، وتنير له دروب تجاربه وممارساته، وإرادة صلبة قادرة على ترجمة التطلعات وإنجاز الوعود وتحقيق الطموحات.

كاتب وباحث سعودي «سيهات».