آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 3:50 م

الصدى الفارغ

عصام المرهون

بتململٌ معتاد تتصفح قائمة المشاهير على سناب شات فتشاهد تلك المشهورة بصفحتها ذات النجمة الصفراء ممتطيةً سيارتها الفارهة وقد هبطت للتو من مقعد الدرجة الأولى لرحلتها الأخيرة بالطائرة، وهي تتكلم بلهجة مشحونة بالغضب على تأخر الرحلة لمدة 45 دقيقة، وعلى الوجبة المقدمة ذات المذاق السيء والتي تفتقر لشيء من نكهة إكليل الجبل، وكيف سبب لها ذلك أذىً نفسياً وإرهاقا جسدياً خصوصاً وأنها كانت في جولة مُرهقة للغاية بين الدول الأوروبية وبين الفنادق والمطاعم الفارهة، وتتوعد بأنها سوف تشكو شركة الطيران هذه وسوف تمتنع عن السفر على متن طائراتها مرة أخرى.

وفي المقابل... ماذا؟؟... يمتلئ صندوق الرسائل الواردة لديها بسيل من رسائل الأسى والتعاطف، وردود الأفعال المؤيدة لما تنقل والتي لا تخلو من بعض القصص المشابهة المختلقة من بعض المتابعين الذين أضناهم محاكاتها ومحاولة التشبه بها.... انتهى.

هذا مثال لآلاف الأدوار التي تتقمص دور الضحية كل يوم وعلى أتفه الأسباب، حيث تضج مواقع التواصل الاجتماعي بتلك الشخصيات المحسودة التي نعيش معها في وهم الكمال بهذا العالم الافتراضي، والتي أنستني الضحايا الحقيقيين وألوّت أعناقنا عن التعاطف معهم أو الاهتمام بهم.

”دور الضحية“ أصبح نمط مشترك اليوم بين الفقراء والأغنياء، بين المُترفين والمُعدمين على حدٍ سواء، وقد تكون بالفعل هذه المرة الأولى في تاريخ البشرية التي تجد فيها كل مجموعة ديموغرافية نفسها مظلومة وضحية في الوقت نفسه التي تجد فيها المجموعات البشرية الأخرى نفسها هكذا أيضاً، وهيَ استفادة جماعية للولوج بالمخارج السهلة وإلقاء اللائمة على الآخرين، والذي يمنح كل إمرءٍ منهم شعوراً بالرضا عن نفسه من الناحية الأخلاقية لاقتناعه التام بأنه على حق.

تقول المعالجة النفسية آشيلي إليزابيث في أحد مقالاتها: أنه لا بأس بأن نشعر بالرغبة في البحث عن التعاطف والشفقة بمشاعرنا بين الحين والآخر، لكن الاستسلام لتلك الرغبة بصورة دائمة هو ما يوقعنا في فخ ”دور الضحية“.

وهذا بحد ذاته كفيل أن يخلق مجتمع غير قادر على تحمل المسؤولية حتى في أبسط الأمور، حيث أصبح لعب دور الضحية شعبياً إلى حدٍ واسع، وهذه للأسف أحد الآثار الجانبية السلبية للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتي جعلت من السهل أكثر من أي وقتٍ مضى أن يدفع المرء المسؤولية عن نفسه ليُلقيها على شخص أو مجموعة أخرى، وأصبح من السهل أيضاً استقطاب الشفقة والتعاطف من كم هائل من البشر من مختلف الأقاليم. ولا غرابة أن تستقطب هذه الحالات اهتماما ومشاركة عاطفية أكثر بكثير من الأحداث الأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا وأنها تتأطر في إطار العدوى السلبية والتي هيَ في حقيقتها جاذبة بمعدل أعلى منها من الإيجابية بثلاثة أضعاف. والسؤال المهم ودون أن نشعر - هذا لمصحة مَن؟؟ - بجانب المصلحة الشخصية للاعب دور الضحية خصوصاً الذي احترف تنمية الاهتمام والتعاطف إلى جانبه، وسائل الإعلام تأتي في المرتبة الثانية لهذه المصلحة.

حيث أن بيئة الأعلام الراهنة تُشجع هذا النوع من ردود الأفعال لأن ذلك يعني تحسن أعمالها وأرباحها في نهاية المطاف، كما أشار إلى ذلك الكاتب ريان هوليداي في كتاب ”ثق بي، أنا كاذب“ 2012 بمصطلح ”إباحية الغاضبة“ والذي هو عبارة عن نوع من الوسائط الاجتماعية المصممة خصيصاً لاستفزاز المتابعين وإثارة غضبهم بهدف زيادة عدد المشاهدات والمتابعة، لذلك أصبح من الأسهل لوسائل الإعلام العثور على شيء مسيء إلى حدٍ ما، فتبثه إلى جمهور يشترك في قواسم معينه ليخلق قدراً من الغضب، ثم تعيد بث ذلك الغضب على الناس بطريقة تؤدي إلى غضب قسم جديد منهم، وهذا ما يطلق عليه نوعا من مفعول ”الصدى الفارغ“ لمظلومية مُختلقة وفي كثير من الأحيان تكون تجاه شيء تافه.

المشكلة الكبرى فيما يتعلق بدور الضحية هو أنه يحرف الانتباه «دون قصد» عن الضحايا الحقيقيين، حيث أصبحنا نعيش اليوم تخمة من ضحايا المظالم الصغيرة، أصبح معها من الصعب الالتفات للضحايا الحقيقيين، والحقيقة أننا تناسينا أن هذه أحدى ضرائب الديمقراطية التي أصبح من المسلم دفعها، حيث أن جزءًا من عيشنا في مجتمع ديمقراطي حُر يتمثل في أنَ علينا لزاماً التعامل مع أشخاص ووجهات نظر قد لا تعجبنا بالضرورة، والتي تكمم أفواهنا غالباً عن الاعتراض عليها أو حتى نقدها.

عبر رسام الكاريكاتير السياسي ”تيم كرايدر“ عن موضوع دور الضحية والاهتمام والتعاطف الذي يتبعه، في عمود له بصحيفة نيويورك تايمز عام 2009: ”هذا الغضب العام يشبه الكثير من الأشياء التي تخلق لدى الإنسان شعوراً طيباً، لكنه يلتهمنا من الداخل مع مرور الوقت. بل إنه أكثر خُبثاً من معظم الرذائل الأخرى لأننا لا نعترف حتى بأنه ممتع لنا“