آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

ماتت امرأة فانقرضت لغة

الدكتور أحمد فتح الله *

بين الإنسان واللغة علاقة تبادلية، فهي تمنحه وسيلة من خلالها يعبر عن مشاعره وفكره وثقافته، وتمنحه هوية، ويكون بها كائنًا اجتماعيَّا بتربيته وتواصله مع الآخرين، وهناك من يرى أنها تحدد له رؤيته للكون، أو ينظر له من خلال عدساتها. وفي المقابل هو يمنحها نموًا وتطورًا وتاريخًا، وبه تحيا وبه تموت وبه تنقرض.

قبل أيام، أعلنت حكومة تشيلي وفاة كريستينا كالديرون آخر متكلمة للغة سكان أمريكا اللاتينية الأصليين ”ياغان“ عن عمر ناهز الـ93 عاما. و”ياغان“، هم من السكان الأصليين لأرخبيل تييرا ديل فويغو الواقع جنوب تشيلي والأرجنتين، وخلال تعداد عام 2017م قال 1600 شخص في تشيلي بأنهم من ”الياغان“ الذين استقروا في أقصى الجنوب قبل ستة آلاف سنة تقريبًا. وقبل وصول الأوروبيين إلى القارة الأميركية كان عددهم نحو ثلاثة آلاف شخص. لكن الياغان، الذين عانوا من أوبئة عدة وتلاشت تقاليدهم بسبب نمط العيش الحديث، توقفوا منذ فترة عن الصيد وباتوا يهتمون بالصناعات الحرفية اليدوية والبناء والسياحة. وبدأت بوادر التأثير الأجنبي على حياتهم قبل 150 عاما مع وجود مستعمرين أوروبيين في المنطقة، فتخلى السكان الأصليون تدريجيًّا عن تقاليدهم وعن حياة الترحال وبدأوا يرتدون الملابس. وراحت ”الجدة كريستينيا“، التي ترتدي الملابس النسائية التشيلية، تصنع السلال التقليدية المضفّرة ونماذج للمراكب صغيرة التي كان يستخدمها أجدادها، إضافة إلى قطع صوفية تبيعها في متجرها الصغير الواقع عند باب بيتها في فيا اوكيكا.

وقد نقلت العجوز جزئيًّا لغة ”ياغان“ المحكية والمهددة بالاندثار بسبب الإسبانية إلى حفيداتها وإلى ابنة شقيقتها، وقالت فيرونيكا موراليس، منسقة برنامج المحافظة على الثقافة: ”كانت تعلم لغة ياغان في حضانة اوكيكا“. ووفقا لوزارة التنمية الاجتماعية وشؤون الأسرة في تشيلي، فقد ”بذلت جهودا كبيرة للحفاظ على ثقافة ولغة“ ياغان ”، وقامت مع حفيدتها بتجميع قاموس للغة وإعداد مجموعة من القصص والأساطير لهذا الشعب“. وكتبت مؤخرًا حفيدتها كريستينا كتابًا عن حياة جدتها بعنوان ”ذكريات جدتي الياغان“.

وقد سبق للجدة كريستينيا أن قالت في عام 1991م لمجموعة من الصحافيين في فيا اوكيكا «مقر إقامتها» بعد رحيل شقيقتها أورسولا: ”أنا آخر من ينطق بلغة ياغان. ثمة من يفهمها من دون أن ينطقوا بها أو من دون أن تكون لديهم معرفة كبيرة بها مثلي“، لذا صرح عالم اللغات موريس فان مايلي وليامز: ”الأجيال الأصغر من كريستينا تعرف أيضا لغة ياغان، لكن ليس بمستواها، لذلك فهي خسارة لا تعوض“، فقد كانت، حسب اليونسكو «2009» ”كنزًا بشريًّا حيًّا“. ووفقًا لمثل أفريقي قديم: ”عندما يموت شخص مُسِنّ تحترق مكتبة على الأرض“. المكتبة" هنا رمز لمستودع ثقافي، فيه ذكريات وخبرة ومعلومات ليس للفقيد فقط بل لمجموعة من البشر، فكيف إذا كان هذا الميت أو الميتة آخر فرد فيها وليس هناك غيره أو غيرها.

وفي الختام، إنَّ انقراض لغة لهو خسارة إنسانية لأنه عمليًّا فقدان ثقافة مجتمعات تساهم في تكوين المجتمع الإنساني الأكبر. ولأن للموضوع أبعاد مختلفة، ومفاهيم متعددة، فللحديث بقية....

تاروت - القطيف