تأملات نفسية «3»
بعد أن أوضحنا أهمية علم النفس في مقالتي تأملات نفسية «1 & 2»، سنستعرض هنا بعض المدارس النفسية المشهورة:
مؤسس علم النفس الأمريكي ورائد الفلسفة البراغماتية، قضى اثني عشر عاما لينهي كتاب أساسيات علم النفس The Principles of Psychology «1890». بعد أن أنهى دراسته الطبية في هارفارد، تحول إلى الفلسفة وعلم النفس وقد ركّز على وظائف الدماغ البشري. من أفكاره:
- الشعور والإدراك يتغير باستمرار فلا يمكن السباحة في نفس ماء النهر مرتين لأنه يتدفق باستمرار،
- حين نفكر أو نحس، نتصور أننا أحطنا بكل جوانب الموضوع، لكن الحقيقة أننا اخترنا أن نركز على أمور معينة فقط. مثلا، حين ننظر إلى الشجرة، فالعين ترسل للدماغ عشرات اللقطات لجوانب الشجرة، فيؤلف الدماغ بينها ويملأ الفراغات ثم يحكم بأنها شجرة،
- حين تركز تفكيرك على موضوع ما، يرد إلى ذهنك عشرات الأفكار والمصادر عن هذا الموضوع لأنه في بؤرة تركيزك،
- نظرتنا وتصورنا للعالم الخارجي وللآخرين يمر عبر عدة مرشحات filters قد تعكس أفكارنا السابقة عنه، فهل عدسة النظر سوداء أو بيضاء؟
- تعودنا أن نصنع حدودا لطاقتنا وطموحنا بحكم ظروفنا أو عاداتنا السابقة، لكن حين نعزم فنكسر هذه الحدود ونحقق الأفضل، نحسّ فجأة بتدفق السعادة، لأننا اكتشفنا أن لدينا الكثير من الطاقات الكامنة التي لم نستفد منها سابقا،
- يسمح لنا الدماغ أن نغير عاداتنا وأن نصنع عادات جديدة، أي أنه يمكننا أن نصنع توصيلات جديدة من العصبونات الدماغية تختلف عن السابقة وتتوافق مع العادات التي نرغب في اكتسابها،. plasticity of the brain فإذا كرّرنا نفس العمل مرات عديدة، تصبح هذه التوصيلة الجديدة أكثر قوة وتوصيلا لإشارات الدماغ، وبذلك يصبح هذا العمل الجديد عادة مألوفة لا تحتاج إلى عناء.
- نستطيع عمل شيئين في نفس الوقت، كأن نستمع إلى متحدث وننظر إلى الخارج، لكننا لا نتذكر إلا ما كان في بؤرة التركيز وهو أمر واحد في الوقت الواحد.
حدثت ردة فعل عنيفة ضد التعسف الكنسي نتيجة نجاح التطور العلمي والتكنولوجي. في هذا المناخ جاء دارون «1809-1882» بنظرية التطور التي ترى أن الكائنات الحية تأقلمت مع تغيرات الطبيعة وتصارعت على الغذاء والمأوى ومارست الجنس لتتكاثر وتحافظ على بقائها، وأن الحياة بدأت بسيطة من نوع واحد أو أنواع بسيطة ثم تفرعت إلى أنواع عديدة كان منها الإنسان. لقد أعجب فرويد بنظرية دارون التي تنفي قداسة الإنسان فهو امتداد لأسلافه الحيوانات. ويقال أن فرويد كان يمارس ديانته واقعيا، إلّا أنّه أدعّى ظاهريا أنّ الدين وهم خاطئ صنعه الإنسان نتيجة عجزه في صراعه مع الطبيعة ومواجهة الموت فهو يحتاج نفسيا إلى إله كما يحتاج الطفل إلى والده ليحميه أثناء صغره. هذا الصراع في شخصية فرويد أنتج نظريته التي ترى أن نفس الإنسان شريرة وضعيفة يحكمها التنازع. لم يكن هذا الصراع بعيدا عن الواقع، لأنّ أفكار فرويد الغريزية كانت تتعارض بشدة مع ثقافة عصره الفكتوري «1837-1901» الذي عاش فيه، فقد التزمت المرأة بالملابس الطويلة الأذيال، وكان لباس المرأة للسباحة لا يظهر أي جزء من جسمها، بل كانت فكرة المجتمع آنذاك ان المرأة الشريفة لا تكشف أعضاءها.
سنحاول هنا أن نختصر آراء فرويد في الشخصية الإنسانية والتحليل النفسي:
- نفس الإنسان تملك طاقة «اللبيدو» التي تحفز الفرد على تفريغها بأساليب معينة وإن لم يفرغها عاش التوتر والقلق. هذه الطاقة تتمثل في غريزة الحياة التي تحفز الشخص على الأكل والشرب وممارسة الغريزة الجنسية، والتي أعتبرها فرويد قوام الإنسان وسبب بقائه، فهي تعبر عن نفسها بأنماط مختلفة حسب عمر الإنسان، بل ويلعب إشباع أو كبت الغريزة إبّان الطفولة المبكرة أهمية قصوى:
- المرحلة الفمية «منذ الولادة وحتى سنتين»،
- المرحلة الشرجية «عمر سنتين حتى أربع سنوات»،
- المرحلة القضيبية «عمر أربع إلى ست سنوات»،
- مرحلة الكمون «عمر ست سنوات إلى سن البلوغ»،
- المرحلة التناسلية «البلوغ وحتى الشيخوخة».
يرى فرويد إن كبت الغريزة الجنسية أو الإسراف في تلبيتها في أي من هذه المراحل قد يؤدي إلى تأثيرات نفسية تمتد عبر حياة الإنسان.
- تيقن فرويد بعد الحرب العالمية الأولى وويلاتها أن غريزة الحياة لا يمكن أن تفسر كل الظواهر النفسية، فأضاف غريزة الموت التي تعبر عن نفسها بالغضب والعدوان الذي يحاول أن ينجو بالإنسان من الألم.
- تتكون الشخصية حسب فرويد من ثلاثة جوانب رئيسية وهي:
- الهو أو اللبيدو «Id»: منبع الطاقة النفسية الحيوية التي تتمثل في غريزة الجنس لتحقيق اللذة وغريزة العدوان لتجنب الألم والتي يسعى لتفريغهما واشباعهما مباشرة ليزول التوتر والقلق. توجد هذه الغرائز مع الفرد منذ ولادته وحتى آخر حياته. ويسعى هذا الجانب من النفس إلى الإشباع المباشر لغرائزه وإزالة التوتر لاشعوريا دون مراعاة للتقاليد. وقد تكون هذه الاندفاعة شعورية عندما يضعف جانب الأنا.
- الأنا «Ego»: مركز التنفيذ الواقعي وعمليات الشعور والإدراك الحسي الداخلي والخارجي والتفكير والأفعال الإرادية، وهو يتوسط بين الهو والأنا الأعلى فيوفق بينهما ويحمي النفس بناء على خبرته الذاتية. فهو يبحث عن حلول تلبي مطالب الهو الغريزية دون الإخلال بقيم الأنا الأعلى الأخلاقية والاجتماعية.
-
الأنا الأعلى «: «Super Ego مركز القيم والأخلاق والأعراف الاجتماعية والكمال والتحكم في السلوك. وهو موجود في داخل الإنسان وينشأ من التربية والدين والمجتمع ووظيفته كبح شهوات الهو الغريزية. ويتكون من:
1- الضمير الذي يردع النفس عن فعل ما لا ينبغي ولا يتفق مع القيم،
2- الأنا المثالي وهي تصور الفرد المثالي عن شخصيته التي يرغب في تحقيقها في حياته. - الصراع النفسي بين الهو والأنا الأعلى حول قضية معينة قد يسبب قلقا شديدا، فإذا لم يجد التوافق لجأ الإنسان إلى حيل دفاعية مثل الكبت أو الإنكار أو النكوص أو التبرير أو الإسقاط أو التحويل أو التوحد أو العزل أو التسامي. فمثلا: الكبت ينقل القضية من دائرة الشعور إلى دائرة اللاشعور رغبة في تخفيف وتجنب الألم النفسي. لكنّ هذا الكبح لا يقضي عليها نهائيا بل يجعلها تبحث عن وسائل مرضية للتعبير عن نفسها وتخفيف التوتر النفسي والوجداني. أما التسامي فهي حيلة تتبعها النفس لتوجيه الطاقة النفسية من أساليب غير مرضية لا يقبلها الأنا الأعلى إلى أساليب وأهداف سامية يرتضيها الأنا الأعلى، مثل المراهق الذي يوجه طاقته للرياضة البدنية بعيدا عن تلبية النزوة الغريزية. الغريب أن فرويد يفسر ظهور الحضارة الإنسانية بهذه الحيلة الدفاعية ضد الغريزة الجنسية!!
- يقسم فرويد الإدراك البشري إلى:
- الشعور Conscious: هو الوعي المتصل بالعالم الخارجي من خلال الحواس كالسمع والبصر وغيرهم حيث يتم نقل المعلومات مع المشاعر والعواطف إلى الدماغ لتتم عملية التفكير، وهي تمثل ذاكرة الإنسان الحالية التي يعيشها أو عاشها قريبا،
- قبل الشعور Pre conscious: وهي الذكريات والأحداث القريبة التي يمكن استدعاؤها من الذاكرة بسهولة،
- اللاشعور Unconscious: «هذا الاكتشاف قدمه فرويد إلى علم النفس»، يحتوي على كل الخبرات والأمور التي دفعها الفرد بعيدا عن الشعور لتخفيف آلامه النفسية، ولا يمكن الوصول إليها بسهولة. مثلا، حين يطلب جانب الهو من خلال أجزاء دماغية معينة تلبية غرائزه مباشرة، بينما تعارض أجزاء دماغية أخرى تمثل جانب الأنا الأعلى «العقل والضمير»، ويعجز الأنا عن التوفيق بينهما، يلجأ إلى كبت هذه الدوافع في اللاشعور لتخفيف الألم النفسي. كذلك عندما يمر الفرد في تجربة مؤلمة قد تترك جروحا وندوبا في نفسه، يحاول أن يطردها إلى اللاشعور لتخفيف الألم، كما لو ارتكب الفرد جريمة تخالف القيم وتعرّض إلى تأنيب شديد من الأنا الأعلى، فقد يلجأ إلى تخفيف الألم بدفعه إلى اللاشعور. ويمثل اللاشعور حوالي 90% من الحياة العقلية للإنسان، بينما يمثل الشعور وما قبل الشعور حوالي 10% أو أقل.
ثلاث وسائل لمعرفة ما يدور في اللاشعور حيث تختبئ على رأي فرويد أسباب المشاكل النفسية:
1» التداعي الحر Free Association إذ يسرد المريض كل ما يرد على خاطره دون مقاطعة، بل يحاول المعالج معرفة الأمور التي تتكرر في حديثه،
2» زلات اللسان أو الهفوات في ألفاظ المريض التي قد تشير إلى الأمور الكامنة،
3» الأحلام التي يمكن للمريض أن يتذكرها والتي تعتبر طريقا إلى اللاشعور.
1» نتفق مع نظرية فرويد فيما يلي:
- اللاوعي جزء مهم من العقل الإنساني، لكنه ليس فقط نتيجة للكبت وتخفيف الألم بل هو نتيجة طبيعية للدماغ والذاكرة البشرية. اللاوعي مثلا يشمل العادات التي أتقنها الفرد فانتقلت تدريجيا إلى مرحلة الطيّار الآلي autopilot فالعصبونات الدماغية تمت برمجتها بهذه العادات فلا داعي لتوصيلات جديدة، وقد يشمل اللاوعي تجارب ناجحة تعلم منها دروسا أثرت على حياته لكنه نسيها فلا يذكر تفاصيلها. كما أن الوعي على تواصل دائم مع اللاوعي. كما نتفق مع التداعي الحر كوسيلة فعالة لاستذكار واكتشاف بعض المدفونات المكبوتة أو المنسية.
- التقسيم النفسي يتوافق أو ربما جاء من جذور دينية في بعض جوانبه فمثلا: الهو قد تكون النفس الأمّارة التي تمثل الهوى والغريزة، والأنا الأعلى قد تكون النفس اللوامة التي تمثل العقل والضمير،
- الطاقة النفسية لدى فرويد تتمثل في غريز الحياة الشهوية وغريزة الموت الغضبية العدوانية. هذا يذكرنا بالقوى الشهوية والغضبية التي تحدث عنها فلاسفة اليونان وغيرهم، غير أنهم أضافوا لها الكثير من القوى الأخرى التي أنكرها فرويد.
2» دعونا نحاكم نظرية فرويد باستخدام نفس النظرية. أكتشف فرويد نظريته في عقله الواعي، فلا بد من تأثير لعقل فرويد اللاواعي على نظريته، فما هو هذا التأثير؟
- إمّا أنّ يكون عقل فرويد اللاواعي سليما خاليا من الأزمات النفسية المكبوتة فهو لم يمارس هذه التجربة النفسية في حياته، وحيث أن النظرية ليست تجريبية مختبرية بل هي محاولة لفهم فرويد ومعايشته لحالات محدودة في العيادات من مجتمع معين زمانيا ومكانيا، لذا فإن هذا يلقي الكثير من الشكوك على صحة فهم فرويد وعلى نظريته،
- أو أنّ فرويد مرّ في تجربة نفسية مماثلة وأنّ عقله اللاواعي كان يختزن كبتا لنزوة غريزية جامحة في شبابه، وهنا يوجد خياران فقط:
- جاءت هذه النظرية تداعيا حرا واستجابة لعقله اللاواعي، نتيجة لحالته النفسية المكبوتة الغريزية، فعقله اللاواعي هو سيد الموقف، فكيف نؤمن بصحة النظرية،
- أو أنّ عقله اللاواعي رغم تجربته النفسية، حاول أن يعترض على هذه النظرية الغريزية، لكن عقل فرويد الواعي لم يقبل اعتراض عقله اللاواعي، والسؤال لماذا أعترض العقل اللاواعي ولماذا لم يقبل فرويد هذا الاعتراض أن حدث؟ لذا فعلى كل الأحوال، تبقى نظرية فرويد محل إشكال كبير.
- جاءت هذه النظرية تداعيا حرا واستجابة لعقله اللاواعي، نتيجة لحالته النفسية المكبوتة الغريزية، فعقله اللاواعي هو سيد الموقف، فكيف نؤمن بصحة النظرية،
3» تتعارض نظرية فرويد مع عقلانية ايمانويل كانت «1724-1804»:
تبنى الغرب العقلانية بديلا عن الدين، وأثبت كانت أن عقل الإنسان إذا تحرّر من نوازع الشهوة، فإنه يسنتتج نفس الواجب الأخلاقي عالميا، ومقياسه أنه لو أصبح الفعل المعين نظاما يعمل به كل البشر، فستستقيم الحياة الإنسانية «أي أنّ الواجب الأخلاقي ينطبق على الفرد كما ينطبق على الآخرين». باختصار: حين يتصرف الفرد بعقلانية حرّا من الأهواء والرغبات فإنه يتصرف طبقا للواجب الإلزامي الذي يحقق معنى الخير والإنسانية. نظرية فرويد تعارض عقلانية كانت، فالعقل كما يراه فرويد رهين الأهواء والنزوات الجنسية المكبوتة في اللاوعي، وهذا يضرب أساس العقلانية التي أدعّى الغرب أنها بديل عن الدين، فما هو خيار الغرب عقلانية كانت أو غريزة فرويد؟
ماذا حدث بعد فرويد، وهل وافقه طلابه ومريدوه أو خالفوه؟ هذا ما سنستعرضه في المقالة التالية حيث سنناقش رأي زميله المشهور كارل يونغ Carl Jung «1875-1961» الذي عارض فرويد بشدة في بعض جوانب مدرسته، ورأي فيلهلم رايش Wilhelm Reich «1897-1957» الذي تطرّف بشدة ونادى بالانفلات الجنسي. فإلى مقالات لاحقة، والحمد لله رب العالمين.